2:49 صباحًا / 29 أبريل، 2024
آخر الاخبار

أيُجافي توصيفُ الرأسماليّة بالتوحُّش الحقيقةَ العِلميّة؟ بقلم : رفيف رضا صيداوي

رفيف رضا صيداوي

أيُجافي توصيفُ الرأسماليّة بالتوحُّش الحقيقةَ العِلميّة؟ بقلم : رفيف رضا صيداوي

يُعرّف قاموس لاروس الفرنسي “الرأسماليّة المتوحّشة بأنّها “نموذج اقتصادي تُمارِس فيه ميكانيزمات السوق، إذا ما تُركت على عواهنها، تأثيراتٍ في غاية الوحشيّة”؛ بحيث أفضى النموُّ الضّخم والسريع للرأسمال الماليّ وتحوّله إلى رأسمالٍ احتكاريّ ملتحم بالدولة، وإطلاق العنان للأسواق الماليّة للعمل بحريّة مُطلَقة، إلى إعادة هيكلة العالَم من خلال الشركات المتعدّدة الجنسيّات؛ وما إلحاق صفة “التوحُّش” على هذا النموذج الاقتصادي الرأسماليّ، إلّا لتجاوزه مبادئ المشروع الحرّ، والملكيّة الخاصّة للسلع الإنتاجيّة، والربح كمحرِّك للنشاط الاقتصاديّ المتروك من دون أن يحمي المواطنين من مظاهر الجشع الجامح والآثار السلبيّة التي خلّفتها العولمة بفوضويّتها، ولاسيّما في ثمانينيّات القرن الماضي.

في تلك الفترة، راحت تتجلّى بوضوح إرهاصات تكرُّس شبه القطيعة عن النموذج “الفوردي”، وكذلك عن “الكينزيّة” التي رأت في تدخُّل الدولة في النشاط الاقتصادي بغرض ضبط التوازن بين العرض والطلب في السوق، مخرجاً لأزمة الرأسماليّة، سواء في ردّ خطر الانتصار الشيوعي في أكتوبر 1917، والانهيار الاقتصادي الكبير في العام 1929، أم في بقاء هذه الرأسماليّة النموذج الوحيد والأوحد لقيادة العالَم بعد الحرب العالميّة الثانية، في مواجهة النموذج الاقتصادي الاشتراكي الذي يقوده الاتّحاد السوفياتي.

ففي ثمانينيّات القرن الماضي، راحت الرأسماليّة المرتكزة أساساً على إيقاع المُراكَمة الرأسماليّة (مال – سلع – مال أكثر) ترسم ملامح توحّشها وإيقاعاته. وفي هذا السياق، يُذكر أنّ “الاتّفاقيّة العامّة للتعريفات الجمركيّة والتجارة” GATT التي كانت قد قامت في العام 1947، في أعقاب الحرب العالَميّة الثانية، دفعت بالتجارة الحرّة بين الدول الغربيّة آنذاك إلى تطوّرٍ غير مسبوق على صعيد التبادُلات التجاريّة، بحيث تضاعف حَجم الصادرات العالَميّة بين عامَيْ 1950 و1970 خمس مرّات، في الوقت الذي كانت بالكاد قد تضاعفت فيه في العقدَيْن اللّذَيْن سبقا الحرب العالَميّة الأولى. حينها شكَّلت “الفورديّة” وتطوّرها خلال ما يُسمّى بـ “الثلاثين المجيدة”، بين النصف الثاني من أربعينيّات القرن الماضي إلى سبعينيّاته، صمّامَ أمان الرأسماليّة في مواجهة تحدّياتها من خلال تحقيق مكتسبات جوهريّة للعمّال، ولاسيّما على مستوى الحقوق بدءاً من الأجور وصولاً إلى التنظيم النقابي الحرّ وكلّ ما يمتّ بالأمان الوظيفي والاجتماعي بصلة.

غير أنّ صفة “الوحشيّة” التي وُسمت بها الرأسماليّة عند تعيين معالِم تطوّرها وابتعادها عن النموذج “الفوردي”، وكذلك عن “الكينزيّة”، سادت في أدبيّات مختلف ميادين المعرفة الإنسانيّة؛ فبات هذا التوصيف “أي الوحشيّ” أو “التغوّلي” مألوفاً في الاقتصاد (من توماس بيكيني، وبيار نويل جيرو) والاجتماع (ألان تورين، وبيار بورديو وروبيرت كاستل) والفلسفة (نعوم تشومسكي، زيجمونت باومان، ألان دونو، إدغار موران، يورغن هابرماس) والتاريخ (ماريان دوبوزي، وتوماس فرانك)، ولدى غالبيّة المفكّرين العرب من مختلف الاختصاصات أيضاً للتعبير عن الفوضى الاقتصاديّة الدوليّة الجديدة. ذلك أنّ قراءة مآلات هذا التوحُّش الرأسمالي لم تكُن اقتصاديّة فحسب، بل سياسيّة واجتماعيّة أيضاً. ففي الوقت الذي رافقَ فيه “تحوُّل انتصار الأجور على الإنتاجية إلى انتصار الإنتاجيّة على الأجور وزيادة حصّة الأرباح” (غسّان ديبة، “صندوق النقد، vs صندوق النقد [2]: كينز خارج واشنطن”، الأخبار، الاثنين 29 تمّوز 2019)، كان صعود الإيديولوجيّة اللّيبراليّة بنسختها النيوليبراليّة يشيع بأنّ نجاح المُجتمعات المتقدّمة، على المستوى التقني والتقدّم الاجتماعي، غير عائد إلى الاستثمارات التي قامت بها هذه المُجتمعات لتطوير البنى التحتيّة الماديّة والاجتماعيّة، ولا إلى القيود والضوابط التي فَرضتها على الرأسماليّة السائدة لديها، بل يعود إلى الرأسماليّة نفسها.

المُنافَسة كعصب النيوليبراليّة

فقد وجد نواةُ الفكر النيوليبرالي، من أمثال الاقتصادي النمساوي فريدريش فون هايك (1899 – 1992) وتلاميذه، ولاسيّما منهم ميلتون فريدمان، في المنافسة لولب العلاقات بين البشر؛ إذ تَعمد النيوليبراليّة “إلى إعادة تعريف المواطنين كمستهلِكين يمارسون خياراتِهم الديموقراطيّة من خلال البيع والشراء، على اعتبارها العمليّة التي تُكافئ الجدارة وتعاقِب قلّةَ الإنتاجيّة. وتصرّ النيوليبراليّة على أنّ ‘السوق’ يحقّق فوائد لا يمكن تحقيقها إطلاقاً عن طريق التخطيط” (جورج مونبيوت، “النيوليبراليّة – الأيديولوجيّة في أساس مشاكلنا كلّها”، مجلّة بدايات، العدد 30، سنة 2021، ص 16). والمُنافَسة هي دائماً فضيلة على حدّ تعبير عالمة الاجتماع الأميركيّة سوزان جورج، لا يُمكن لنتائجها أن تكون سيّئة؛ إذ إنّه بالنسبة إلى النيوليبرالي، السوق حكيمة إلى درجة أنّها مثل “اليد الخفيّة” التي يُمكنها اجتراح الخير من الشرّ المحقّق. وتستند سوزان جورج إلى خطابٍ لمارغريت تاتشر تقول فيه: “إنّه من مهمّتنا أن نمجّد اللّامساواة وأن نحرص على إطلاق المواهب والقدرات وتحرير طاقاتها التعبيريّة لصالح الجميع”، مُعيدةً ترجمته أو تأويله قائلة إنّ ما عنته تاتشر هو ألّا “تكترثوا بالذين يبقون في مؤخّرة ميدان الصراع التنافسي. البشر غير متساوين بحُكم الطبيعة. ولكن هذا للخير لأنّ مساهمات أبناء الأُسر الوجيهة، والأوفر حظّاً في التعليم، والأقوى، سوف تُفيد الجميع. لا شيء يستحقّه الضعفاء وذوو التحصيل التعليمي المتواضع، وما يجري لهم هو بسببهم وليس أبداً بسبب المُجتمع. إذاً إنّ ‘إطلاق سراح’ نظام المُنافسة، على قولة مارغريت تاتشر، هو الأفضل للمجتمع” (سوزان جورج، “تاريخ موجز للنيوليبراليّة”، مجلّة بدايات، العدد 30، سنة 2021، ص 9 – 10).

فالرأسماليّة وفق إيديولوجيّة النيوليبراليّة كانت تدفع لإنتاج سلع وخدمات تسمح بتحسين ظروف المعيشة. وقد أَتاح التغييرُ التقني المواكب لها انتشارَ سلعٍ جديدة (أجهزة كمبيوتر شخصيّة وهواتف محمولة)، وتطوير خدماتٍ جديدة في مجالَيْ الإعلام والاتّصالات، أوجَدت بدورها فُرَصَ عملٍ جديدة. كما سمح كلّ ذلك عموماً بالعيش بشكلٍ أفضل، وبالتقدُّم في السنّ بصحّة أفضل، وفي ظلّ ظروف أكثر ليونة لا تُقارَن بما كانت عليه في العصور القديمة أو بتلك التي لا تزال قائمة في البلدان التي بقيت على هامش تاريخ الرأسماليّة وهذه المُجتمعات نفسها، أو هذه الديمقراطيّات هي الأنظمة السياسيّة الوحيدة التي سمحت، لا بل عزّزت، ظهور تيّارات نقابيّة أو سياسيّة يتمثّل هدفها الرئيس بالإطاحة بها، والتي لم يكُن عملها مُمكناً، إلّا في قلب الديمقراطيّات اللّيبراليّة نفسها التي لا تنفصل عن المنطق الابتكاري العقلاني الذي يميّز بعُمق صعود الرأسماليّة .

يتناظر هذا التوازُن الديناميكي لدى فيري، مثلاً، بين “ابتكار هدّام و”هدْمٍ خلّاق” كدافعٍ للتقدّم الاجتماعي مع المبدأ الاقتصادي الكلاسيكي “دعْه يعمل دعه يمرّ”، المؤمن بقدرة قوى العرض والطلب على تنظيم اقتصاد السوق بنفسه، وبقدرة مستويات الأسعار والأجور والعمّال على تعديل نفسها تلقائيّاً عن طريق ما سمّاه آدم سميث “اليد الخفيّة”. وهو الأمر الذي يترك زمام الأمور للرأسماليّة ويسمح لها بالتحرّك على هواها.

وفق هذا المنطق، لا تعدو انعكاسات التطوّر التقني المواكب لثورة المعلوماتيّة على الأجور في البلدان الرأسماليّة، ولاسيّما أجور الموظّفين الأقلّ تأهيلاً، منذ الثمانينيّات، وتراجُع دَور النقابات، وسهولة إجراءات الفصل، والتعويض عن البطالة وغيرها من العواقب التي تفاوتت حدّتها بين بلدانٍ رأسماليّة وأخرى (كمقاومة فرنسا أو ألمانيا مثلاً، وبعكس الولايات المتّحدة، عبر إجراءاتٍ حاسمة لضبْط سوق العمل وحقوق العاملين)، ناهيك باللّامساواة الفاقعة في الأجور بين أصحاب الوظائف العليا وأصحاب الوظائف الوسيطة أو ما دونها، وتآكُل حصّة الوظائف الوسيطة مع تباطؤٍ في نموِّ الأجور المتدنّية في العديد من البلدان المُتقدّمة، وما يرافق ذلك كلّه من عدم استقرار مهني وعائلي ومجتمعي، وفق هذا المنطق لا تعدو هذه الظواهر والعواقب كلّها أن تمثّل سوى مرحلة انتقاليّة مرادفة للتقدُّم الذي لا بدّ من دفْعِ فاتورته من أجل رفاه البشريّة.

تزامُن هذه التغيّرات كلّها، من عولمة التبادلات، والسيطرة المتزايدة للرأسمال المالي العالمي، والزيادة المطّردة عالَميّاً في الارتباط القائم بين العمليّات الاقتصاديّة، وهَيمنة الشركات العالميّة على الأنشطة الاقتصاديّة المولِّدة للقيمة، مع تضاؤل دَور الدولة – الأمّة، لم يحجب إذاً علامات التراجُع الملحوظة في المجتمعات المتقدّمة التي فصّلها الباحث والخبير الاقتصادي الفرنسي أنطون براندر في كتابه “الرأسماليّة والتقدّم الاجتماعي”.

فرأى أنّه من الصعوبة بمكان التغاضي عن واقع أنّ نصيب الفرد من النّاتج المحلّي الإجمالي اليوم هو أعلى بعشرين مرّة ممّا كان عليه في بداية القرن التّاسع عشر، وأنّه يصعب التشكيك في أنّ هذا التحسُّن المادّي قد أَسهم، جزئيّاً على الأقلّ، في التقدُّم الاجتماعي، ولاسيّما مع ازدياد إنتاجيّة العمل بشكلٍ كبير وانخفاض وقت العمل بمقدار النصف في فرنسا والولايات المتّحدة كمثالَين اتّخذهما الباحث، لكنّ ذلك لا يحجب برأيه واقع تلاشي التقدُّم الاجتماعي المستمرّ. فالمُنافسة كقانونٍ محرِّك وكقيمة مركزيّة للنيوليبراليّة، والتي أفضت بحسب سوزان جورج إلى تقليص القطاع العامّ عبر الخصخصة ومكافأة رأس المال على حساب العمل، نتج عنها “نقل الثروة من أسفل المجتمع إلى أعلى”. فقد أفضت “الإصلاحات الضريبيّة” للثنائي تاتشر – مايجر، بحسب سوزان جورج، إلى أنّه في الثمانينيّات، “كان واحدٌ بالمئة من دافعي الضرائب يحصل على ٢٩% من جميع فوائد الحسوم الضريبيّة، بحيث إنّ شخصاً يكسب نصف معدّل الأجر العامّ يجد أنّ ضرائبه قد ارتفعت بنسبة ٧% في حين أنّ شخصاً يكسب عشرة أضعاف معدّل الأجر العامّ ينال تخفيضاً بنسبة ٢١%.

ثمانينيّات القرن الماضي كانت إذن بمثابة الشاهد والدليل على تراجُع التطوّرات التي بدأت بعد الحرب العالَميّة الثانية في العديد من المُجتمعات المتقدّمة. فالولايات المتّحدة، أكثر الاقتصادات الغربيّة تقدُّماً، من حيث إنتاجيّتها، ومقارنةً بالعقود التي أعقبت الحرب العالَميّة الثانية مباشرةً، توقّفت فيها زيادة أجور نصف الأقلّ ثراءً من البالغين، فيما العشرة في المئة من بين الأكثر ثراءً تضاعف دخلهم بين أوائل الثمانينيّات ومنتصف العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين. وفيما كان تقدُّم الظروف المعيشيّة الماديّة يشمل الجميع خلال العقود التي أعقبت الحرب العالَميّة الثانية مباشرةً أيضاً، وكذلك من جيلٍ إلى جيل، بحيث يرتفع مَوقع الأطفال في سلّم الدخل في كثيرٍ من الأحيان مُقارَنةً بمَوقع والدَيْهم، أصبحت هذه “الحركيّة الاجتماعيّة التصاعُديّة” في العقود الأخيرة أقلّ تواتُراً، وكان التفاقُم مُذهلاً، منذ التسعينيّات، للتفاوُتات في الدخل وفي الثروة أيضاً .

كانت هذه بعض المؤشّرات والدلائل التي لا تجافي القراءة العلميّة للأمور، ولاسيّما حُماة العلميّة والموضوعيّة الذين يتحسّسون من توصيف الرأسماليّة بالتوحّش باسم العِلم.

شاهد أيضاً

شهداء بقصف طيران الاحتلال منزلاً غرب غزة

شهداء بقصف طيران الاحتلال منزل غرب غزة

شفا – استشهد عدد من المواطنين وأصيب آخرون، الليلة، بعد قصف طائرات الاحتلال الحربية منزلا …