
قراءة إنطباعية، “رسائل عربية” مشروع ثقافي يستدعي الذاكرة ويواجه العصر ، بقلم: د. تهاني رفعت بشارات
يقدّم كتاب “رسائل عربية” نفسه بوصفه منجزاً ثقافياً لافتاً ينهض على معادلة دقيقة تجمع بين وفاءٍ عميقٍ للأصل، ووعيٍ نقديٍّ بأسئلة الحاضر. إنّه كتاب يغامر بالعودة إلى أدب الرسائل في زمنٍ استبدلت فيه الإنسانية رسائلها الطويلة بإشعاراتٍ مقتضبة، واعترافاتها العميقة برموزٍ سريعة الزوال. ومن هنا، لا يبدو المشروع حنيناً رومانسياً إلى الماضي بقدر ما هو فعل ثقافي مقاوم للنسيان، ومحاولة جادّة لاستعادة الكلمة المكتملة بوصفها حاضنة للمعنى والذاكرة.
صدر الكتاب بمبادرة من مركز السنابل للدراسات والتراث الشعبي في فلسطين، استجابةً لدعوة مفتوحة تلقّى المركز على إثرها أكثر من مئة رسالة من كتّاب وكاتبات من أقطار عربية متعدّدة. وهذا الإقبال اللافت لا يؤكد فقط حيوية المشروع، بل يدحض الفرضية الشائعة عن اندثار فن الرسائل؛ إذ يبرهن الكتاب أن هذا الفن لم يمت، بل غيّر جلده، وتخفّى في أشكال جديدة، وظلّ حياً ينتظر من يستنطقه ويعيد تقديمه في سياق ثقافي واعٍ.
البناء والهيكلية: بين صرامة التأطير وحرية البوح
ينتظم الكتاب في بنية مدروسة تبدأ بمقدمة نظرية موسّعة، تؤدي وظيفة تأسيسية بالغة الأهمية؛ إذ ترسم أفقاً تاريخياً ونقدياً لأدب الرسائل، وتضع القارئ أمام تحوّلات هذا الفن من الكلاسيكي إلى المعاصر. ثم تتوالى الرسائل مصنّفة وفق الانتماء الجغرافي، كما في قسمي فلسطين وتونس في النص المعروض.
هذا البناء يحقق توازناً لافتاً بين التنظيم الأكاديمي والتدفّق العفوي للنصوص؛ فالمقدمة تضبط الإطار، بينما تترك الرسائل حرّة في انسيابها، تقول ما تشاء بالطريقة التي تشاء. وهكذا لا يغدو الكتاب مجرّد مختارات أدبية، بل يتحول إلى بحث تطبيقي حيّ يختبر الفرضيات النظرية داخل النصوص ذاتها.
الرسائل الفلسطينية: الكتابة بوصفها ذاكرةً ومقاومة
تتقدّم الرسائل الفلسطينية بوحدة موضوعية تكاد تكون قدراً مشتركاً، رغم اختلاف الأصوات وتنوّع الأساليب. هنا تتحوّل الرسالة إلى فعل صمود، وإلى مساحة للحفاظ على الذاكرة الجمعية في وجه المحو. فالكتابة ليست ترفاً، بل ضرورة وجودية، ووسيلة لمواجهة الاحتلال، والتشظي، والمنفى الداخلي والخارجي.
نقرأ رسائل الجدّ إلى الحفيد، والسجين إلى العالم، والنازح إلى بيته المؤجل، والمثقف المحاصر إلى ضميره. وتتكرّس الرموز الفلسطينية بوصفها شيفرات للهوية: الزيتون، البرتقال، الكوفية، المخيم، وجدران القدس. لغة هذه الرسائل مشحونة بالدلالة، كثيفة الإيحاء، كأن كل كلمة كُتبت وهي تعلم أنها قد تكون شاهداً أخيراً على ما كان.
الرسائل التونسية: كتابة الذات والبحث عن المعنى
في المقابل، تميل الرسائل التونسية إلى الانعطاف نحو الداخل، حيث الذات بوصفها سؤالاً مفتوحاً. فإذا كانت الرسائل الفلسطينية مشدودة إلى القضية والوطن، فإن الرسائل التونسية تنشغل بالعلاقات الإنسانية، وبالفن، وبالقلق الوجودي، وبمعنى الكتابة نفسها.
نلتقي هنا بمراسلات بين مبدعين يتأملون الجمال ودور المثقف، ورسائل أمهات إلى بنات في المنافي، ونصوص عن المرض والعزلة، وعن الوحدة بوصفها تجربة إنسانية لا مهرب منها. إنها كتابة تحاول أن تجد موطئ قدم في عالم متسارع، دون أن تتخلى عن حساسيتها الفكرية والجمالية، فتأتي الرسالة أقرب إلى مرآة داخلية تعكس ارتباك الإنسان العربي المعاصر وأسئلته المؤجلة.
اللغة والأسلوب: فسيفساء تعبيرية غنية
يكشف الكتاب عن تنوّع أسلوبي ولغوي ثري؛ فبعض الرسائل ينهل من البلاغة العربية التقليدية، ويحافظ على نبرة الرسائل الكلاسيكية، فيما تنزع أخرى إلى لغة حديثة مباشرة، خاصة في التجربة التونسية. هذا التعدد لا يشتّت القارئ، بل يمنحه تجربة قرائية مركّبة، تعكس تعدد الأجيال والرؤى والمدارس الأدبية.
وتتسع دلالة “الرسالة” هنا لتشمل نصوصاً تقترب من قصيدة النثر، وأخرى تشبه اليوميات، وثالثة تتقاطع مع المقال التأملي، ما يجعل الكتاب مختبراً مفتوحاً لأشكال التعبير، ويمنح المفهوم التقليدي للرسالة حياةً جديدة.
المرأة وصوتها: حضور فاعل ورؤية متعددة
يُسجّل للكتاب حضوره النسائي اللافت، لا من حيث العدد فحسب، بل من حيث عمق التجربة وجرأة الطرح. تظهر المرأة في صور متعددة: أمّاً، ومثقفة، ومناضلة، وكاتبة تمتلك أدواتها اللغوية ورؤيتها الفكرية. لا تكتب المرأة هنا من الهامش، بل من قلب التجربة، معبّرة عن هموم شخصية وعامة بلغة تجمع بين الرقة والقوة.
وبهذا، يغدو الكتاب وثيقة ثقافية مهمّة ترصد تحولات الصوت النسائي العربي، وقدرته على مساءلة الواقع، وإعادة صياغة الذات، والمشاركة الفاعلة في تشكيل الوعي.
الزمن والسياق: رسائل من قلب العاصفة
من دون ادعاء التوثيق المباشر، يلتقط الكتاب لحظتين مفصليتين في الذاكرة العربية المعاصرة: جائحة كورونا والحرب على غزة. تظهر الرسائل بوصفها ردود فعل إنسانية على هذه الأزمات، حيث أعادت الجائحة الإنسان إلى عزلته وأسئلته، وفرضت الحرب نفسها كجرحٍ مفتوح يلوّن تفاصيل الحياة اليومية.
هذا التداخل بين الكتابة والزمن يمنح النصوص قيمة إضافية، ويحوّلها إلى وثائق وجدانية تكمل السرد الرسمي والإعلامي، وتقدّم وجهاً إنسانياً للتاريخ.
منجز ثقافي وتحديات مشروعة
يحسب للكتاب نجاحه في تثبيت فرضيته الأساسية حول استمرارية فن الرسائل، وفي تقديم بانوراما واسعة للتجارب الإنسانية العربية. غير أن المشروع لا يخلو من تحديات، أبرزها تفاوت الحضور الجغرافي، حيث يطغى المكوّنان الفلسطيني والتونسي، إضافة إلى تفاوت المستوى الأدبي بين الرسائل، وهو أمر أقرّ به المشرفان بشفافية.
قد يبدو هذا التفاوت إرباكاً للقارئ أحياناً، لكنه في الوقت ذاته يعكس صدق التجربة وتنوّعها، ويؤكد أن الكتاب لم يسعَ إلى التنميط أو الإقصاء، بل إلى احتضان الأصوات كما هي.
الخاتمة: الرسالة بوصفها مستقبلاً للمعنى
في محصلته النهائية، يقدّم “رسائل عربية” بياناً ثقافياً هادئاً وعميقاً يؤكد أن أدب الرسائل لا يزال قادراً على التعبير عن هواجس الإنسان العربي، وربما كان الشكل الأصدق لبعض التجارب التي لا تحتمل الاختزال.
إنه كتاب يذكّرنا، في زمن السرعة، بأن التواصل الإنساني الحقيقي يحتاج إلى كلمة مكتملة، ووقت للتأمل، ومخاطَب محدّد. يذكّرنا بأن بعض المشاعر لا تُرسل في سطر، وبعض الحقائق لا تُختصر، وبعض الذكريات تستحق أن تُكتب لتبقى. وبهذا المعنى، يغدو الكتاب جسراً متيناً بين تراث أدبي عريق ومستقبل تعبيري ما زال يؤمن بأن للكلمة الموجّهة مكانتها الخاصة في فضاء الإنسان والذاكرة.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .