3:57 مساءً / 27 ديسمبر، 2025
آخر الاخبار

محمد بكري ، الصوت الذي اختار فلسطين قدرًا ، بقلم : غدير حميدان الزبون

محمد بكري : الصوت الذي اختار فلسطين قدرًا ، بقلم : غدير حميدان الزبون


تتقدّم سيرة محمد بكري في الوعي الفلسطيني مساحة مفتوحة للمعنى، حيث يلتقي الفن بالمسؤولية، وتتحوّل الكلمة إلى فعل، ويغدو الموقف جزءًا من الهوية. حضوره في المشهد الثقافي ارتبط بالجرأة والوضوح والانحياز الصريح للإنسان الفلسطيني، بعيدًا عن الحياد المريح أو الخطاب الملتبس.


من هنا كان اسمه حاضرًا في اللحظات الصعبة، وفي القضايا التي تتطلب صوتًا لا يخشى العواقب.
ففي زمن تتراجع فيه القيم أمام حسابات الربح والخسارة، اختار محمد بكري طريق الالتزام الثقافي، واضعًا الفن في مواجهة الظلم، والذاكرة في مواجهة الطمس، والحقيقة في مواجهة التشويه.


لم يتعامل مع المسرح والسينما بوصفهما أدوات عرض، وإنما بوصفهما فضاءين للاعتراف الجماعي، ولإعادة طرح السؤال الفلسطيني بوصفه سؤالًا إنسانيًا وأخلاقيًا مفتوحًا على العالم.
حمل بكري صوته من الجليل إلى المنصات العربية والعالمية، محتفظًا بثبات النبرة ووضوح الرسالة.


وقد قدّم الإنسان الفلسطيني كما هو، بحياته اليومية، بخساراته، بإصراره على البقاء، وبحقه في سرد حكايته دون وصاية. فصار حضوره فعلًا ثقافيًا مقاومًا، يتجاوز حدود الأداء الفني إلى فضاء التأثير العميق في الوعي العام.


ارتبط اسمه بالمواقف التي تتطلّب شجاعة مضاعفة، حيث يتحوّل الفنان إلى شاهد، وتتحوّل الشهادة إلى عبء ثقيل.
ومع ذلك، استمر في الدفاع عن حق الذاكرة في الكلام، وعن حق الحقيقة في الظهور، مؤكدًا أنّ الثقافة قادرة على أن تكون جبهة وعي، وأنّ الفن قادر على مساءلة القوة حين يعجز الخطاب السياسي.


وهذا كله يجعلنا نقرأ تجربة محمد بكري بوصفها فصلًا من فصول السردية الفلسطينية المعاصرة، فصلًا يضع الإنسان في مركز الحكاية، ويمنح الصوت لمن حُرموا طويلاً من حق الكلام.


يحضر اسم محمد بكري في الوجدان الفلسطيني فعلًا ثقافيًا متجذرًا في الأرض والوعي، فالفن لديه ارتبط بالمسؤولية، والكلمة ارتقت إلى مستوى الشهادة، والموقف تحوّل إلى مسار حياة.


من الجليل خرج صوته واضح النبرة، راسخ الانتماء، متصلًا بحكاية الناس وهمومهم وأحلامهم المؤجلة.
انطلق بكري في تجربته الفنية مدركًا أن المسرح والسينما فضاءان للبوح الجمعي، ومساحتان لمساءلة الظلم وكشف المسكوت عنه.


اختار الأدوار التي تفتح الأسئلة، وتزعج الرواية السائدة، وتمنح الإنسان الفلسطيني حق الظهور كصاحب قضية وصاحب حياة، فحمل الوجع دون تزييف، وقدّم الشخصية الفلسطينية بعمقها الإنساني بعيدا عن الأرقام في نشرات الأخبار.


فتجلّى حضوره في أعماله موقفًا أخلاقيًا قبل أن يكون أداءً فنيًا؛ لانحيازه للحقيقة، وتحمّله تبعات هذا الانحياز بثبات نادر. واجه التحريض والملاحقة والمحاكم، واستمر في الدفاع عن حق الذاكرة في البقاء، وعن حق الضحية في أن تُروى قصتها كاملة، فصار صوته علامة ثقافية، تتجاوز حدود الفن إلى فضاء الضمير.


ارتبط اسم محمد بكري بالفعل التوثيقي الجريء، حيث تحوّلت الكاميرا إلى أداة مساءلة، وتحول السرد إلى مقاومة معرفية.
كما اختار أن يضع نفسه في قلب العاصفة، إيمانًا بأنّ الصمت مشاركة غير معلنة في الجريمة، فارتفعت قيمة عمله بوصفه سجلًا أخلاقيًا، يحفظ الألم من النسيان، ويمنحه شرعية الحضور.


في حضوره الإنساني، حافظ على بساطة العلاقة مع الناس، وعلى وضوح الانتماء دون مواربة، ولم يسعَ إلى النجومية المنفصلة عن الواقع، وفضّل البقاء قريبًا من الأرض، ومن القرى، ومن التفاصيل الصغيرة التي تصنع هوية المكان، فكان حضوره امتدادًا للناس، وصوته تعبيرًا عنهم لا عن ذاته فقط.


رحيل محمد بكري يفتح فراغًا في المشهد الثقافي الفلسطيني، فراغًا لا يُقاس بعدد الأعمال، بل بثقل الموقف.
ويظل اسم محمد بكري حاضرًا في الذاكرة الفلسطينية بوصفه صوتًا اختار الوضوح طريقًا، والالتزام قدرًا، والإنسان محورًا.


ترك أثرًا يتجاوز حدود الأعمال الفنية، وأرسى معنى ثابتًا لدور المثقف حين يضع قضيته في صدارة اختياراته.
فالفن عنده ارتبط بالحق، والكلمة ارتبطت بالموقف، والصوت ارتبط بالناس.


تغيب الأجساد، وتبقى السِيَر التي كُتبت بالفعل والصدق، ويستمر أثر محمد بكري في الأسئلة التي أثارها، وفي الوعي الذي حرّكه، وفي الجرأة التي فتح بها مساحات جديدة للكلام الحر.


حضوره جزء من السردية الفلسطينية المعاصرة، ومن الذاكرة التي ترفض الإقصاء، وتصرّ على الاعتراف.


هكذا يُختتم المسار، دون ختام حقيقي. فالصوت الذي حمل فلسطين في الوعي الجمعي يستمر، والموقف الذي وُضع في مواجهة الظلم يظل قائمًا، والرسالة التي كُتبت بالثقافة والفن تظل مفتوحة على الأجيال القادمة.
سلامٌ لروحه،


وسلامٌ لفنّ اختار الوطن موقفًا،
وسلامٌ لصوتٍ يواصل الحضور في الضمير.

شاهد أيضاً

الاحتلال يواصل عدوانه على بلدة قباطية : حصار وتهجير قسري والاستيلاء على منازل وتجريف بنية تحتية

شفا – تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي عدوانها على بلدة قباطية جنوب جنين، لليوم الثاني على …