6:09 مساءً / 19 ديسمبر، 2025
آخر الاخبار

إبراهيم جوهر “حكمة المشفى” من رحم المعاناة ، بقلم : وفاء داري

إبراهيم جوهر "حكمة المشفى" من رحم المعاناة

إبراهيم جوهر “حكمة المشفى” من رحم المعاناة ، بقلم : وفاء داري

إبراهيم جوهر يمدّ قلمه ليكتب روحه المُتعبة من ضيق الغرفة ووجع الجسد. ففي حضرة الألم، لا يبقى سوى الحرف الصادق. لطالما مثّلت الكتابة للكاتب الفلسطيني إبراهيم جوهر، أحد مؤسّسي ندوة “اليوم السابع” في القدس، متنفسًا ومرآةً لروح المدينة وأهلها.


يشتهر جوهر بتوثيق تفاصيل الواقع الفلسطيني والمقدسي في “يوميات مقدسية” أو “أقحوانة الروح”، حيث يمزج روحه بروح القدس، ناقلًا آلامها وقضاياها اليومية.


أسلوبه تميز بلغة أنيقة، كما يتميز بالصدق والجرأة والنقد.. تنوع إبداعه بين الخاطرة، المقالة الأدبية، القصة القصيرة، أدب الأطفال، والمقالة النقدية مثل دراسته: “الأرض في القصة القصيرة الفلسطينية”، ورواية ” أهل الجبل”.
لكن في سلسلة يومياته الأخيرة “في المشفى”، يتحول هذا المتنفس إلى حكمة قسرية تنبع من رحم تجربة المرض والركود. لقد حوّل جوهر ركوده القسري إلى وثيقة عميقة، تثبت أن الإبداع لا يتقهقر أمام الألم، بل يزداد بصيرة وعمقًا، ليقدم حكاية إنسانية حيّة عن هشاشة الإنسان المطلقة أمام الواقع القاسي.


تبدأ الرحلة بوعد بسيط “كلّها يومين، وبرجع”، سرعان ما يتحول إلى صدمة: فاليومين الموعودين في المشفى امتدّا شهرًا ونصف، وتوالت الأحداث إلى أن أدت العملية الجراحية إلى جلطة دماغية تُعطّل الجسد. لكن بدلًا من الاستسلام، يرفض جوهر أن يكون ألمه فرديًا، بل يربطه فورًا بوجع أمته، متسائلًا بمرارة وجودية عميقة: “ما قيمة حياة بلا إنسانية ولا حرية؟” هذا التساؤل يرفع التجربة من سياق المرض إلى شهادة على هشاشة الوجود في محيط مأزوم.


يبلغ الصدق في هذه اليوميات ذروته عند وصف لحظات العجز، حيث يتجلى الانكسار الإنساني الصارخ. يصف جوهر لحظة بكائه وهو ينتظر من يقشّر له بيضة الإفطار، فيسأل نفسه بغضب: “ألهذا الحدّ ساءت الأحوال؟!”. لكن هذا الضعف يقود إلى حكمة كونية تتجاوز الذات: “كم هو ضعيف هذا الإنسان، “ولو يرى هذه الحالة… لما تكبّر ولا تجبّر.” يجد القارئ لهذه الخلاصة تأكيداً صادقًا في مشاهد الموت المتجاور (قصة “علي شقيرات” المفاجئة) وفي ثيمة الخطأ الوارد، التي تبرز هشاشة النظام الطبي البيروقراطي الذي كاد ينقل مريضًا غائبًا عن الوعي بسبب تشابه الأسماء.


وفي ختام هذه الامتحانات، يظهر (نيسيم) كرمز أدبي للعبء النفسي. الجار عاشق الطرب الأصيل الذي لا يصدر إلا نداءات متكررة مزعجة، يمثل التناقض الإنساني وفخ الوحدة القاتلة التي لخصها بعبارة مأساوية عن خذلان الأبناء. والذي تعاني منه أغلب المجتمعات لكن في المقابل، يجد جوهر قوة روحية ودعمًا مضاعفًا في الروابط التي زرعها: طلابه السابقون الذين أصبحوا أطباءً مشرفين، في مشهد يؤكد أن القلم والتعليم لا يفنيان؛ فالمعلم الذي غرس، يتلقى اليوم ثمار غرسه عنايةً وكفاءةً.


إن الانتقال الأخير للكاتب إلى (غرفة أخرى أكثر هدوءًا) هو خلاص رمزي لا يقتصر على المشفى، بل هو انتصار الروح التي تحتاج إلى العزلة والسلام لتستأنف تأملها. لقد أثبت إبراهيم جوهر، من خلال هذا السرد الواقعي، أن الأدب في أصدق صوره هو شاهد على تحولات الروح التي تحوّل الألم إلى بصيرة.

إن ما قدمه إبراهيم جوهر في هذه اليوميات يتجاوز التوثيق الطبي ليصبح تشريحًا نقديًا لمفهوم القوة والضعف. لقد نجح في تطويع اللغة لتكون “مشرطًا” في يد جرّاح ماهر، جريء يكشف عورات الزيف البشري، محولًا التفاصيل اليومية الرتيبة إلى مرايا فلسفية تعكس تآكل الذاكرة والجسد مقابل خلود الكلمة. لم يكتب جوهر عن مرض عابر، بل صاغ بيان التواضع الإنساني في وجه العدم، مؤكدًا أن الأديب الحقيقي هو من يستطيع ترتيب الفوضى الداخلية وإضاءة عتمة الممرات الضيقة ببريق الوعي. نرجو أن تُوثَّق هذه السلسلة من الكتابات وتُسطَّر في كتاب لاحقًا، كما نرجو له العافية الدائمة والسكينة.. ما زلتَ معلّمًا لنا من خلال كتاباتك.

شاهد أيضاً

إصابتان برصاص الاحتلال خلال اقتحام مخيم الجلزون شمال البيرة

شفا – أصيب مواطنان، مساء اليوم الجمعة، بالرصاص، في مواجهات اندلعت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، …