
تحديات الاستثمار العام في القطاعين البيئي والصحي في صيدا ، بقلم : لينا مياسي
يواجه الاستثمار العام في مدينة صيدا تحدّيات متعدّدة تحدّ من فعاليّة المشاريع التنموية وقدرتها على تحقيق أثر ملموس في حياة المواطنين. إذ تعكس هذه التحدّيات ضعف التخطيط الإداري وغياب رؤية استراتيجية واضحة لتطوير المدينة. فالاستثمارات في مختلف القطاعات تعاني من غياب المخطّط التوجيهي الذي يحدّد شكل المدينة المستقبلي، إلى جانب تداخل الصلاحيات بين المؤسسات وضعف قدرة بلدية صيدا على متابعة التنفيذ وضمان الجودة، ما يؤدي إلى تأخير المشاريع وهدر الموارد العامة.
وتتفاقم هذه الإشكالات بسبب محدودية الإمكانيات المالية والبشرية، والتدخلات السياسية والمحاصصة، وتغليب المصالح الشخصية على المصلحة العامة، فتتحوّل مشاريع الاستثمار – التي يُفترض أن تكون محرّكًا للنمو الاقتصادي والاجتماعي – إلى عبء إضافي على المالية العامة، مع عرقلة واضحة لمسار التنمية المحلية.
ويأتي هذا الواقع في سياق وطني أشمل يعاني فيه الاستثمار العام في لبنان من أزمات مالية وسياسية مزمنة، ضعف في التخطيط والرقابة والمساءلة، وارتفاع معدّلات الفساد الإداري، ما يزيد من صعوبة تنفيذ المشاريع وتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.
إدارة مرتبكة تعيق الاستثمار الصحي
يُعدّ القطاع الصحي في مدينة صيدا من أبرز القطاعات التي تعكس واقع الاستثمار العام في المدينة. فعلى الرغم من وجود بنية تحتية صحية جيدة نسبيًا، تضمّ المستشفى الحكومي في صيدا والمستشفى التركي الحكومي للطوارئ والحروق، إلا أن القطاع ما زال يعاني من سوء الإدارة والتشغيل وضعف استثمار الموارد المتاحة.
أُنشئ المستشفى التركي في صيدا عام 2010 على أرض تبلغ مساحتها 15 ألف متر مربع قدّمتها بلدية صيدا لصالح المشروع، بتمويل من الحكومة التركية عبر وكالة التعاون والتنمية التركية (TİKA)، وقُدّرت كلفة البناء والتجهيز الأولي ما بين 25 و30 مليون دولار أميركي. أُدرج المستشفى ضمن المؤسسات العامة عام 2015 بهدف تخفيف الضغط عن المستشفيات الحكومية وتوفير خدمات طبية لأبناء صيدا والجوار بأسعار مخفّضة.
تمّ تنفيذ المشروع وفق نموذج عقد إدارة/تشغيل (Management/Operation Contract)، حيث اقتصر دور القطاع الخاص على البناء والتجهيز، بينما بقيت ملكية المستشفى وتشغيله بالكامل من مسؤولية القطاع العام. هذا النموذج سمح بالاستفادة من خبرات القطاع الخاص خلال مرحلة الإنشاء، لكنه بقي محدود الفاعلية، إذ كان بالإمكان اعتماد شراكة أوسع بين القطاعين العام والخاص (PPP) تشمل الإدارة والتشغيل، بما يضمن تمويلًا مستدامًا، ويحسّن جودة الخدمات، ويقلّل من التعثّر الإداري الذي رافق المستشفى لسنوات.
غير أنّ المستشفى ظلّ مقفلًا لسنوات طويلة بسبب تضارب الصلاحيات بين بلدية صيدا ووزارة الصحة، إذ تملك البلدية الأرض فيما تعود ملكية المبنى والتجهيزات للدولة اللبنانية. كما حالت غياب الأموال التشغيلية دون تأمين الكادر الطبي والصيانة، ما أدّى إلى تضرّر المعدات وتجهيزات (TİKA) بسبب عدم استخدامها. وزاد من التعقيد غياب خطة تشغيل واضحة ومشاريع داعمة لم تُنفّذ مثل مشروع الطاقة الشمسية.
ورغم افتتاح المستشفى رسميًا في آذار 2023، إلا أنّه ما زال يواجه صعوبات كبيرة، أبرزها:
- سوء الإدارة والمحاصصة في تعيين الهيئة الإدارية،
- استمرار تضارب الصلاحيات بين البلدية والوزارة،
- فائض في عدد الموظفين يفوق الحاجة الفعلية،
- غياب آلية تمويل واضحة أو سياسة استشفائية من وزارة الصحة،
- اعتماد المستشفى على هبات ومساعدات موسمية من جهات محلية ودولية،
- نقص في بعض الأقسام وضعف الأداء كمرفق استثماري فعّال، ما يهدد الثقة بين الجهات الممولة والإدارات المحلية.
وفي أيلول 2025، زار وزير الصحة الدكتور راكان ناصر الدين المستشفى معلنًا تقديم مساهمة مالية بقيمة 400 ألف دولار، إلى جانب تجهيزات طبية حديثة من جهات دولية بينها البنك الإسلامي للتنمية وجامعة الدول العربية والبنك الدولي.
لكن، وعلى الرغم من التزام الوزير بتعهّداته، تبقى آلية تمويل المساهمة خارج الموازنة العامة أمرًا معقّدًا، يتطلب موافقات إدارية وإعادة توزيع الموارد بين المستشفيات الحكومية كافة، ما يستدعي تخطيطًا طويل الأمد لضمان استدامة التشغيل والاستثمار.
في السياق، أكد رئيس لجنة الصحة في بلدية صيدا، الدكتور تيسير الزعتري، أن الاستثمار العام في المدينة يواجه عقبات مالية كبيرة تمتدّ إلى مختلف القطاعات. وأوضح أن المستشفى التركي في صيدا واجه، إلى جانب الصعوبات المالية، عراقيل سياسية حالت دون تشغيله لسنوات.
وأشار الزعتري إلى أن بلدية صيدا نجحت، بالتعاون مع وزارة الصحة، في تأمين دعم للمستشفى عبر تزويده بماكينات ومعدات طبية جديدة بدأت بالوصول، إلى جانب وعود بتقديم هبة مالية بقيمة 400 ألف دولار.
وأضاف أن النهوض بالقطاع الصحي في المدينة يتطلب إدارة سليمة، وتحديدًا دقيقًا للمصاريف التشغيلية والإنفاق الاستثماري، واختيار كادر طبي يتناسب مع القدرة الاستيعابية للمستشفى. كما شدّد على أهمية تعزيز وعي المواطنين بجودة الخدمات التي تقدّمها المستشفيات الحكومية، مؤكدًا أنها لا تقلّ كفاءة عن المستشفيات الخاصة.
وفي هذا الإطار، دعا الزعتري إلى عقد لقاء مشترك بين ممثلين عن بلدية صيدا ووزارة الصحة لتحديد المسؤوليات وتوزيع الصلاحيات. وقال: “حاولت لجنة الصحة في بلدية صيدا مرارًا التواصل مع وزير الصحة لتحديد موعد اجتماع لمناقشة واقع المستشفى التركي، لكننا لم نتلقَّ أي رد حتى الآن”.
وختم بالقول إن المشكلة الأعمق تكمن في مركزية إدارة الدولة التي تعيق فعالية العمل في مختلف القطاعات، معتبرًا أن الإدارات الرسمية يمكن أن تنتج وتنهض عندما تُدار بطريقة سليمة ومنظّمة، ما يخفف من الأعباء الملقاة على المواطنين.
فشل إدارة النفايات
يُعدّ القطاع البيئي من الركائز الأساسية لنجاح الاستثمار العام، إذ يضمن استدامة الموارد الطبيعية، ويعزّز النمو الاقتصادي، ويحمي المجتمع من الأضرار الصحية والبيئية. وفي هذا الإطار، يُعتبر مشروع معالجة النفايات في صيدا (IBC) من أبرز مشاريع الاستثمار العام التي استهدفت تحسين إدارة النفايات والتخلّص من جبل النفايات الذي تراكم لعقود على الشاطئ الجنوبي للمدينة.
تمّ في هذا المشروع اعتماد نموذج (BOOT (Build-Own-Operate-Transfer، الذي يُمكّن القطاع الخاص من بناء المعمل وتشغيله، على أن تنتقل ملكية الأرض والمشروع إليه بعد 20 عامًا. ويتيح هذا النموذج للقطاع العام الاستفادة من خبرات القطاع الخاص في مجالات البناء والتمويل والتشغيل، مقابل تحمّل الأخير جزءًا كبيرًا من المخاطر الاستثمارية والتشغيلية والاستفادة من العائدات. غير أنّ فعالية هذا النموذج كانت ستتضاعف لو اقترن بآليات واضحة للمساءلة وتقييم الأداء، وبشروط تعاقدية صارمة تفرض الالتزام بالمعايير البيئية والتقنية، وتمنح الجهة العامة صلاحيات رقابية أوسع تحول دون تحوّل الشراكة إلى امتياز خاص يفتقر إلى الشفافية.
في هذا الإطار، يشرح الناشط البيئي والصحافي وفيق هواري، أن المعمل أُنشئ عام 2008 بموجب عقد بين بلدية صيدا وشركة IBC، يقضي بإنشاء معمل لمعالجة النفايات وفق معايير صحية وبيئية، ومعالجة 200 طن من نفايات المدينة يوميًا مجانًا، مع تقديم تقارير دورية حول الكميات والتقنيات المستخدمة، إضافة إلى التزام الشركة بالحفاظ على البيئة والتخلّص من النفايات بطريقة آمنة. كما تضمّن العقد بندًا استثماريًا يمنح الشركة حق استثمار الأرض بعد 20 عامًا من التشغيل. إلّا أنّ الإدارة رفضت تشغيل المعمل حتى عام 2012، وذلك بعد إلغاء بند معالجة 200 طن مجانًا ورفع كلفة المعالجة إلى 85 دولارًا لمدة عامين، ثم إلى 95 دولارًا في العامين اللاحقين.
لكن الشركة المشغّلة لم تلتزم بمعظم بنود العقد وفق هواري، إذ يعمل المعمل من دون ترخيص قانوني، ولم يلتزم بمعالجة الكميات المحدّدة أو تقديم التقارير الدورية، فضلًا عن عدم التزامه بالمعالجة المجانية لنفايات المدينة. كما تغيب الرقابة الفعّالة من قبل بلدية صيدا والوزارات المعنية، في حين تعاني اللجنة المراقبة التابعة لاتحاد بلديات صيدا – الزهراني من ضعف في المتابعة والتدقيق بالكميات الداخلة والخارجة من المعمل.
وبالتالي أدّى هذا التقصير إلى تداعيات بيئية وصحية خطيرة، من بينها تراكم النفايات في محيط المعمل، وتلوّث الشاطئ، وارتفاع انبعاثات الغازات الضارّة، وزيادة معدلات الإصابة بسرطان الرئة في المناطق المجاورة. كما ارتفعت كلفة معالجة الطن الواحد من 45 إلى 95 دولارًا، تُدفع من أموال الصندوق البلدي المستقل، رغم غياب الترخيص القانوني للمعمل، ما يُعدّ هدرًا للمال العام.
وتبقى الإشكالية الجوهرية في الوعد الذي أطلقته بلدية صيدا بمنح الشركة المشغّلة حق استملاك الأرض بعد 20 عامًا من التشغيل، رغم أنّ الأرض تعود للملك العام ولا يمكن التصرّف بها إلا بموجب تعديل لقانون الأملاك العامة الصادر عام 1925. ما يثير مخاوف من محاولات شرعنة الأمر الواقع وتحويله إلى مكسب خاص على حساب المصلحة العامة والبيئة في المدينة.
من جهته، أكّد عضو لجنة متابعة شؤون معمل النفايات في بلدية صيدا، المهندس بلال شعبان، أن معمل معالجة النفايات في المدينة يشكّل حاجة ملحّة لصيدا وجوارها، وللاتحاد البلدي الذي يضم بلديات صيدا والزهراني. فقد صُمم المعمل ليكون حلاً بيئيًا مستدامًا لمعالجة النفايات الصلبة في المنطقة، والحد من الأضرار الناتجة عن تراكمها.
لكن الواقع الحالي يختلف عن الهدف المرجو، إذ يعاني المعمل من تراجع قدرته التشغيلية وتوقفات متكررة أثّرت مباشرة على فعالية عمله. ووفق شعبان، توقف المعمل كليًا لنحو ثلاث سنوات من العام 2019 لغاية 2022، ما أدى إلى تراكم كميات كبيرة من النفايات في ساحته. وبعد إعادة تشغيله بعد سلسلة من التغييرات الإدارية والفنية، لا يعالج المعمل اليوم سوى 40 إلى 50 بالمئة من النفايات التي تصل إليه يوميًا، ويراكم داخله ما تبقى منها.
وأشار شعبان إلى أن أحد أبرز التحديات يتمثل في غياب المطمر الصحي الذي يُفترض نقل العوادم إليه، ما جعل المعمل عاجزًا عن استكمال دورة المعالجة البيئية، وتسبّب بأضرار كبيرة على البيئة والصحة العامة نتيجة تراكم النفايات وعدم معالجتها لفترات طويلة.
وانعكست هذه الأزمة على المدينة ومحيطها، إذ أدّى تراكم النفايات وسوء إدارتها إلى تلوث الهواء والمياه البحرية بسبب تسرب المخلفات إلى البحر، ما شكّل مصدر قلق بيئي وصحي للأهالي.
وختم شعبان بالتأكيد على ضرورة عودة المعمل للعمل بكامل طاقته التشغيلية وفق معايير بيئية دقيقة، مشددًا على أن بلدية صيدا ستضطر إلى اتخاذ إجراءات إنذارية أو عقابية في حال استمرار التقصير، حفاظًا على البيئة والصحة العامة في المدينة وجوارها.
نحو إدارة أكثر كفاءة للاستثمار العام
أكدت الخبيرة في الشراكة بين القطاعين العام والخاص، الدكتورة ديالا الشعار، أنّ تحسين الاستثمار العام لا يمكن أن يتم عبر حلّ واحد أو نموذج موحّد، لأن كل مشروع يمتلك خصوصيته من حيث نوع العقد وآلية التنفيذ والأطراف المعنية.
وأشارت إلى أن تعميم الحلول قد يؤدي إلى نتائج عكسية، مشددة على ضرورة دراسة كل عقد على حدة ومراجعة تفاصيله القانونية والفنية والمالية لضمان سير العمل وفق المعايير المطلوبة.
وأوضحت الشعار أن بعض العقود الأساسية، في حال تعطّل تنفيذها، قد تؤثر مباشرة على الخدمات العامة، ما يستوجب أن تراعي أي حلول مقترحة حماية الحق العام وضمان استمرارية الخدمات دون انقطاع، لأن الهدف الأساسي من هذه المشاريع هو خدمة المواطنين وتحقيق التنمية المستدامة في المدينة.
وأضافت أن الخطوة الأولى نحو الإصلاح تكمن في تحليل العقود القائمة لتحديد إمكانيات إدخال تحسينات عليها ورصد الثغرات التي ظهرت خلال التنفيذ. ومن بين المقترحات العملية، منح الجهات المنفذة مهلة زمنية محددة – تصل إلى ستة أشهر – لتصحيح الخلل، على أن تُتخذ إجراءات تصعيدية في حال عدم الالتزام، بما يضمن استمرارية الخدمات العامة دون تعطيل.
وختمت الشعار بالتأكيد على أن إنهاء العقود ليس خيارًا سهلًا، إذ يتطلب إجراءات قانونية معقدة والتزامات مالية كبيرة، ما يجعل خيار الإنذار أو التصعيد التدريجي أكثر واقعية للحفاظ على المرافق العامة. وشددت على أن نجاح أي إصلاح يرتبط بوجود كفاءات متخصصة قادرة على فهم طبيعة المشاريع وآليات تشغيلها واتخاذ قرارات تستند إلى دراسات واقعية توازن بين المصلحة العامة، والجهات المنفذة، وحقوق المواطنين.
في المحصلة، أظهرت مشاريع الاستثمار العام في صيدا، مثل معمل معالجة النفايات والمستشفى التركي، أن التحدي الأكبر لا يكمن في التمويل فقط، بل في ضعف الإدارة وغياب المتابعة الفعلية من قبل الوزارات المعنية والبلدية. ويكشف هذا الواقع ضعف الاستثمار العام في المدينة، في ظلّ غياب رؤية شاملة تحدد أولويات التنمية وتوجّه الموارد نحو القطاعات الأكثر حاجة.
كما يتفاقم هذا الضعف نتيجة غياب الدور الفعّال للمجتمع المدني في تشكيل ضغط مجتمعي للمطالبة بحماية المرافق العامة، إلى جانب تراجع الثقة بالقوى السياسية وقدرتها على بناء مؤسسات الدولة وإدارة المشاريع بشفافية وكفاءة.
اليوم، تقف صيدا عند مفترق طرق بين طموح التنمية وواقع الإهمال، وهي تستحق أن تتحول إلى نموذج للاستثمار المستدام، تكون فيه المشاريع العامة ركيزة للنهوض الاقتصادي والاجتماعي لا عبئًا إضافيًا على المدينة وأهلها.
يُنشر هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي حول “قضايا الشفافية والإصلاحات المالية والاقتصادية” تنظمه مؤسسة مهارات بالشراكة مع معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي وبدعم من الصندوق الكندي للمبادرات المحلية – CFLI.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .