
“اغتنام العجلة”.. بناء العقل والمعرفة بدل الترف الزائل ، بقلم : بشار مرشد
المقدمة: صراع القوى القديمة والجديدة
ظلّ سؤال القوة يتردّد عبر التاريخ: من يمتلك اليد العليا؟ صاحب المال أم صاحب العلم؟ في زمن الذهب والنفط والعقارات كان معيار القوة بسيطاً؛ من يملك المورد يملك النفوذ. أما اليوم، وفي خضم التحوّل الرقمي والثورة المعرفية، تظهر مفارقة حادة: كيف يمكن للدول الغنية بالثروات الطبيعية أن تضمن استدامة قوتها، بينما يتحوّل العقل إلى المورد الإستراتيجي الأول، وتُصبح المعرفة أغلى من كل ما يخرج من الأرض؟
الدول الثرية بالموارد تقف أمام مفترق حاسم:
إما الارتهان إلى رفاه زائل يستند إلى ثروة ناضبة، أو تبنّي استراتيجية “اغتنام العجلة”، وهي استخدام المال لشراء الزمن وتسريع بناء المعرفة. فالعقل المدرّب هو بوليصة التأمين الوحيدة ضد التراجع الاقتصادي وتقلبات الأسواق.
الثروة الموروثة في مواجهة القوة المنتِجة:
المال يمنح تأثيراً سريعاً وقوة تكتيكية: يشتري النفوذ، ويشيّد المشروعات الكبرى، ويوفر قدرة تدخل مباشر. لكنه قوة تعتمد على ما هو موجود سلفاً.
في المقابل، تمتلك المعرفة قوة مولِّدة لا تنضب. اليابان مثال واضح؛ دولة فقيرة بالموارد، لكنها غنية بالعقول القادرة على تحويل الأفكار إلى تكنولوجيا وصناعات تقود اقتصاداً عالمياً.
جوهر الفارق بسيط:
ثروة الموارد تُستهلَك وتتراجع، بينما ثروة العقل تتضاعف بالاستخدام. القوة الحقيقية ليست في امتلاك العجلة، بل في القدرة على صناعتها وتطويرها.
“اغتنام العجلة”: استراتيجية التحوّل المعرفي:
تعني هذه الاستراتيجية تجاوز إضاعة الوقت في إعادة اختراع ما صُنع سابقاً، والتركيز على تطويره وتحسينه. وقد نجحت بها عدة دول مثل:
كوريا الجنوبية والصين بدأتا بالهندسة العكسية للمنتجات المتقدمة، ثم تطوير نسخ محلية بتقنيات أفضل وأسعار أقل. هذا النهج بنى قواعد صناعية عملاقة.
تركيا بدورها وظّفت الخبرات المكتسبة، خصوصاً في الصناعات الدفاعية، لتتحول تدريجياً إلى منتِج لا مجرّد مستورد.
هذه النماذج تؤكد أن بناء العقل المحلي هو الأساس؛ فالدولة الفقيرة تستطيع بالصناعة أن تُنتج، والدولة الغنية تستطيع بالمال أن تُسرّع بناء العقل.
بناء العقل بدل الترف الزائل:
الغاية ليست شراء التكنولوجيا فحسب، بل بناء القدرة على إنتاجها. عندما تتحول الثروة من إنفاق استهلاكي على سلع كمالية إلى استثمار في الجامعات ومراكز الأبحاث والتعليم التقني؛ تتحول إلى قوة باقية.
المعرفة أصل يتضاعف، بينما النفط ينضب، والمعادن تتراجع قيمتها، والسلع الفاخرة تفقد بريقها.
العقل المدرّب، وحده، قادر على خلق صناعات جديدة وحل مشكلات المستقبل.
اغتنام العجلة بالمال الطريق الامثل للدول الثرية:
الدول الثرية مثل دول الخليج تمتلك أهم عنصر في معادلة التحوّل: وفرة رأس المال. وهذا يمنحها ميزة فريدة تمكنها من “شراء الزمن”، أي تجاوز مراحل كان على غيرها أن يقضي فيها عقوداً كاملة.
تتحقق هذه الاستراتيجية عبر ثلاث دوائر مترابطة:
أولاً: استيراد التكنولوجيا كمنظومات كاملة:
لا يكفي شراء أجهزة أو مصانع متفرقة، بل يجب استيراد منظومات صناعية وتقنية متكاملة: خطوط إنتاج، شبكات أتمتة، مصانع روبوتية، مراكز بيانات متقدمة. هذه المنظومات تختصر سنوات من التجريب وتمنح نقطة انطلاق عالية.
ثانياً: تحويل الخبرة المستوردة إلى معرفة مدوّنة ومؤسسية:
الخبراء الأجانب ليسوا أدوات تشغيل، بل حَمَلة “المعرفة غير المكتوبة”: كيفية اتخاذ القرار، إدارة مختبر، تتبّع الأخطاء، تصميم العمليات الدقيقة.
وتستطيع دول الخليج تحويل وجودهم إلى عملية نقل معرفة منهجية عبر:
– فرق محلية مرافقة تعمل كتوأم مهني يومي.
– إلزام الخبراء بتوثيق العمليات والمعارف.
– تقييم نقل المعرفة لا حجم الإنتاج فقط.
بهذا يتحول رأس المال إلى مصنع للعقل.
ثالثاً: بناء قدرة محلية على الابتكار:
بعد مرحلة الاستيراد والتفريغ المعرفي، يبدأ الطور الحاسم: إنتاج معرفة محلية.
هنا يتطلّب الأمر جامعات بحثية حقيقية، مختبرات متقدمة مرتبطة بالصناعة، شركات تكنولوجية محلية تجرؤ على المخاطرة، وتمويل موجّه نحو براءات الاختراع لا الأرباح العاجلة.
وعبر ربط التدفق المالي بالتدفق المعرفي، يصبح كل مشروع قناة لإنتاج عقل جديد، لا مجرد مبنى جديد.
الخاتمة: رسالة للمستقبل
المال يمنح قوة للحاضر، بينما يمنح العلم قوة للمستقبل. واستراتيجية “اغتنام العجلة” هي الطريق لتحويل ثروة مؤقتة إلى إرث دائم. فالقوة لا تُقاس بما تحت الأرض، بل بما في العقول.
ويبقى الوجه الآخر لهذه المعادلة أن تجاهل اغتنام العجلة ليس تباطؤاً عادياً، بل مخاطرة وجودية. الدول التي تعتمد على مواردها الخام ستجد نفسها خارج سباق القوة في عالم تتحول فيه المعرفة إلى المورد الأول. النفط والغاز قد يفقد قيمته، والمال قد يتبخر، لكن الفجوة المعرفية إذا اتسعت يصعب سدّها. الفشل في بناء العقل اليوم يعني خسارة الدور غداً، بينما النجاح يعني دخول عصر تُقاس فيه القوة بعدد العقول المنتجة لا عدد الآبار الممتلئة.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .