
غزة تحت الوصاية… من يكتب مستقبلها؟ ، بقلم : المهندس غسان جابر
هناك لحظات في السياسة تشبه دخولك إلى غرفة مضاءة جيدًا، لكن كل ما فيها موضوع بطريقة تجعلك تتساءل: هل هذه الإنارة لتُري الحقيقة… أم لتُخفيها؟
مشروع القرار الأميركي بشأن غزة ينتمي إلى هذا النوع من اللحظات. ضوء قوي، كلام جميل، وواقع مختلف تمامًا.
الولايات المتحدة تقدّمت بمشروع قرار إلى مجلس الأمن يبدو للوهلة الأولى وكأنه “طوق نجاة” لغزة، لكنه في الحقيقة يشبه من يعطيك قاربًا مثقوبًا ثم يطلب منك أن تبتسم للكاميرا.
في جوهره، القرار يعيد غزة إلى حالة تشبه الانتداب، لكنه هذه المرة تحت اسم أنيق: “مجلس السلام” برئاسة دونالد ترامب. نعم، ترامب. الرجل الذي يرى العالم صفقة، والشرق الأوسط فصلًا في كتاب “كيف تكون رئيسًا صاخبًا”.
ومجلس الأمن؟ مجرّد شاهد عابر يوقع على الأوراق.
قوة دولية… لكن باتجاه واحد
القرار يقترح إنشاء “قوة استقرار دولية”. الاسم يوحي بالطمأنينة، لكن المهمة الأساسية تبدو واضحة:
نزع سلاح المقاومة.
أما سلاح الاحتلال؟ فهذا موضوع “يُبحث لاحقًا” — وهي العبارة الدبلوماسية التي تعني: “لن يحدث”.
هكذا يتحول الاحتكام إلى الشرعية الدولية إلى غطاء لمعادلة جديدة:
إسرائيل تبقى محصّنة، بينما تُفرغ غزة من أدوات الدفاع عن نفسها.
ثم تأتي فقرة “المسار السياسي”، التي كُتبت بعبارة لطيفة ومطاطة:
“قد يتم بحث إقامة الدولة الفلسطينية بعد قيام السلطة بإصلاحات”.
وقد… دائمًا “قد” في السياسة الأميركية معناها: “ربما… ولكن لا تراهن”.
لماذا امتنعت الصين وروسيا عن الفيتو؟
الناس سألت: أين الفيتو الروسي؟ أين الفيتو الصيني؟
والحقيقة أن الفيتو ليس زرًا أحمر تضغط عليه كلما شعرت بالغضب.
الصين وروسيا أدركتا أن:
- السلطة الفلسطينية نفسها قبلت بالقرار.
- دول عربية دعمت المشروع.
- الصدام مع واشنطن الآن مكلف جدًا.
موسكو غارقة في حرب أوكرانيا، وبكين منشغلة باقتصادها وبصراعها الصامت مع أمريكا. كلاهما قرأ المشهد ببرود:
استخدام الفيتو سيبدو كأنهما تعترضان على قرار “يوافق عليه الفلسطيني الرسمي”.
وليس هناك دولة عاقلة تحب أن تظهر وكأنها تعارض الطرف الذي يفترض أنه صاحب القضية.
لذلك امتنعتا.
ليس حبًا في القرار، بل هروبًا من ثمن سياسي باهظ.
لماذا قبلت دول عربية والسلطة الفلسطينية؟
الجواب بسيط ومؤلم في آن:
المنطقة متعبة.
الدول تبحث عن استقرار بأي ثمن.
السلطة الفلسطينية تبحث عن دور في غزة منذ 2007.
والقرار الأميركي بدا للكثيرين كطريق مختصر لـ “إيقاف النار” و”عودة الهدوء”.
السلطة رأت في المشروع فرصة للعودة إلى غزة، حتى لو جاء ذلك عبر بوابة أميركية مشروطة. وبعض العواصم العربية رأت أن أسوأ قرار، قد يكون أفضل من استمرار الحرب.
لكن هذه الحسابات قد تدفع ثمنًا سياسيًا وأخلاقيًا في المستقبل.
هل تصبح غزة تحت وصاية أمريكية كاملة؟
القرار يمهّد لواقع جديد:
غزة تُدار عبر “مجلس سلام” تقوده واشنطن، وتخضع لقوة أمنية دولية، وتتحكم الولايات المتحدة في ملفات الإعمار، والحدود، والاقتصاد، وحتى شكل الحكم.
إنه نموذج جديد من “الوصاية”، ناعم في الشكل، صارم في الجوهر.
وفي ظل هذه المعادلة تصبح غزة “ملفًا دوليًا” لا “قضية وطنية”، ويتم التعامل معها كما لو كانت إقليماً خاضعًا لإعادة ترتيب، لا جزءًا أصيلًا من فلسطين.
ماذا عن الغاز؟
أحيانًا تكشف الحقيقة عن نفسها في سؤال صغير:
لماذا الآن؟
غزة تطفو فوق ثروة غاز ضخمة على شواطئها.
ولسنوات طويلة، بقي هذا الملف مجمدًا، ليس خوفًا من حماس، بل خوفًا من أن يمتلك الفلسطينيون مصدر قوة اقتصادي مستقل.
القرار الأميركي يفتح الباب لإدارة دولية–أميركية للقطاع، وبالتالي فتح ملف الغاز بطريقة تخدم شركات دولية وإسرائيل، بينما يحصل الفلسطيني على الفُتات –إن حصل أصلًا.
تحت غطاء “السلام”، ستُدار ثروة غزة كما أُديرت ثروات كثيرة في أماكن أخرى: “تطويرًا” على الورق، ونهبًا في الواقع.
هل يفصل القرار غزة عن الضفة الغربية ؟
هذا هو السؤال الأخطر.
وهذه هي اللعبة الأكبر.
منذ الانسحاب الإسرائيلي عام 2005، كان الهدف الاستراتيجي هو جعل غزة شيئًا… والضفة شيئًا آخر.
القرار الحالي يعمّق هذا الاتجاه:
إدارة دولية في غزة
سلطة أمنية جديدة
اقتصاد منفصل
حدود منفصلة
وشرعية دولية مختلفة تمامًا عن الضفة
بهذا تصبح الدولة الفلسطينية –إن قامت يومًا– دولة بلا غزة، وغزة كيانًا بلا سيادة، معلقًا بين الاحتلال والوصاية.
وبذلك يتحقق أحد أكبر أحلام اليمين الإسرائيلي… بصمت وبغطاء دولي.
إلى أين يذهب الفلسطينيون بعد هذا القرار؟
ما يحدث ليس نهاية المطاف، لكنه منعطف خطير.
القرار لا يصنع مستقبل غزة وحدها، بل يصنع مستقبل القضية كلها.
المشهد الفلسطيني الآن بحاجة إلى:
وحدة سياسية
رؤية واضحة
خطاب موحد
استراتيجية وطنية جديدة
واستعادة زمام القيادة بدل ترك الآخرين يرسمون المستقبل
لأن أخطر ما يحدث اليوم هو أن العالم بدأ يتعامل مع غزة كأنها “مشروع إعادة تأهيل”، لا كجزء من شعب يعيش تحت الاحتلال.
نقول: مشروع القرار الأميركي ليس خطة سلام، بل خطة إدارة.
ليس حلًا للقضية، بل تجميد لها.
ليس خطوة نحو الدولة الفلسطينية، بل خطوة نحو فصل غزة عن الضفة… وتحويل القضية من مسألة تحرر وطني إلى مسألة “إدارة أزمة”.
لكن التاريخ لم يغلق صفحته بعد.
والشعب الذي صمد في وجه الحصار والحرب ثلاثين عامًا قادر على أن يعيد تعريف مستقبله… شرط أن يمسك هو بالقلم، لا أن يتركه في يد الآخرين.
م. غسان جابر – قيادي فلسطيني
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .