
(إن صيفت ألطّمي)… غزة في محنة الفصول التي لا ترحم ، بقلم : د. بسام الحاج
في غزة، لا تتعاقب الفصول كما تتعاقب في المدن الأخرى؛ هنا لا تتغير الملابس ولا تتبدّل المزاجات ولا تنضبط الحياة على إيقاع الطقس. فصول غزة متقاربة في وجوهها، متصلة في أوجاعها، وكأن الحرّ والبرد، الشمس والمطر، قد اتفقوا سرًّا على أن يُلقوا بثقلهم على الناس الذين لم يعد لهم من الفصول إلا أسماؤها.
ومن بين كل ما قيل، يبقى المثل الشعبي الفلسطيني القديم:
“إن صيفت ألطّمي… وإن شتّت ألطّمي”
أدقّ تعبير عن هذه الحقيقة التي تتوارثها الذاكرة أكثر مما تتوارثها الأيام.
في مدن العالم، الصيف فصل للبحر والفرح. أمّا في غزة، فهو فصل للنجاة. وليس على أهلها انتظار انقطاع الكهرباء في الحرّ، فما عاد لديهم كهرباء أصلًا كي تنقطع.
أما “البيت” الذي يُفترض أن يحميهم من قيظ الشمس، فهو خيمة بلاستيكية مهترئة، لا تختلف كثيرًا عن أكياسٍ تُحزَم في الأسواق، سوى أنها هنا تُستعمل لتصدّ الشمس والعالم والقدر.
تشتد الحرارة في المخيمات حتى تُصبح هواءً منسفِتًا، لا يُتنفّس بل يُبتلع ابتلاعًا. تتشبّع الخيمة بحرارة النهار، وتتحول ليلًا إلى فرنٍ صغير، تتزاحم فيه الأرواح الباحثة عن نسمةٍ واحدة.
ومع القيظ، تأتي جيوش الكائنات التي يطردها الناس عادةً. النموس ينهال على أجساد الأطفال بلسعات لا ترحم، والبعوض يملأ الأذنين بطنينه القاسي، والذباب لا يترك طعامًا ولا جرحًا، بينما الفئران تجري بين الخيام كما لو أنها سكانٌ أصليون للمكان.
في هذا المخاض من الحرّ، يفهم الغزّي معنى المثل:
“إن صيفت… ألطمي.”
فالصيف، بكل ما فيه، اختبار آخر لقدرة الإنسان على الصبر حين لا يملك خيارًا آخر.
ثم يأتي الشتاء. لكنه لا يأتي كما يأتي في المدن الأخرى، مزينًا بالشباك المغسولة أو بدفء المدافئ التي تجمع العائلات.
في غزة، المطر لا يُسمَع فوق السقف… لأنه يدخل الخيمة مباشرة.
الخيمة، تلك المساحة التي استبدلت جدار البيت، تتحوّل بفعل المطر إلى قماشةٍ مبللة، تتشقق، تنفذ منها الريح، وتخترقها المياه كما يخترق السهم الورق.
يهبط المطر على المخيم فلا تُروى الأرض، بل تغرق.
يتحول التراب إلى وحلٍ لزج، يعلَق بالأقدام الصغيرة، ويُرهق النساء وهنّ يحاولن سحب أطفالهن من الطين.
تتشكل البرك بين الخيام، وتدخل المياه إليها بلا استئذان، فتبتل البطانيات القليلة، وينام الناس فوق أرضٍ باردة تهتز مع العاصفة.
وفي كل عاصفة، تتمايل الخيام كأشرعة سفنٍ معطّلة، وكأن الريح تسألها: “كيف ما زلتِ صامدة؟”
وفي تلك الليالي، يعود المثل مرة أخرى ليحمل ترجمته الوحيدة:
“وإن شتّت… ألطمي.”
فالشتاء في غزة لا يحمل الدفء، بل اختبارًا آخر للقدرة على النجاة.
غزة بين نار ووحل… وأمل
وهكذا يعيش الغزّي بين فصولٍ لا تتبدّل إلا في طريقة إيذائها.
لا صيفٌ يرحمهم من النار،
ولا شتاءٌ يعفيهم من الوحل،
ولا بيتٌ يحميهم،
ولا كهرباء تُخفف عنهم،
ولا سماء تستجيب لندائهم.
لكن، وسط هذه القسوة، يتبدّى وجه غزة الحقيقي:
مدينةٌ تشتدّ عليها الفصول، لكنها لا تنكسر.
شعبٌ يتلقى الضربات من كل الجهات، لكنه لا يتخلى عن نورٍ خافتٍ يرفض أن ينطفئ.
إنه الأمل؛ ذلك الذي يمدّ الغزّي بقدرةٍ لا تُفسَّر على الاستمرار في الحياة، رغم أن الفصول كلها تعلن عليه حربًا مفتوحة.
وهكذا يظل المثل الشعبي الفلسطيني قائمًا، ليس فقط وصفًا لحالٍ مؤلم، بل كشهادةٍ حيّة على صمودٍ يتحدى الفصول، ويتحدى العالم، ويُعيد تعريف معنى أن يكون الإنسان… إنسانًا في غزة.
د. بسام الحاج
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .