
واشنطن 2025: زيارة مفصلية تعيد رسم خريطة الإقليم ، السعودية بين معادلة القوة وحلّ الدولتين ، بقلم: المهندس غسان جابر
في الثامن عشر من نوفمبر 2025، يصل وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن، في زيارة تُعدّ الأكثر أهمية في العلاقات السعودية – الأميركية منذ أكثر من عقد. ليست زيارة بروتوكولية ولا جولة علاقات عامة، بل محطة سياسية وأمنية واقتصادية تحمل في طياتها موازين جديدة تُعاد صياغتها في الشرق الأوسط، وتضع المملكة في قلب معماريّة التحالفات الدولية.
منذ سبع سنوات، حمل الأمير الشاب حقيبة التغيير إلى العاصمة الأميركية للمرة الأولى، يومها كانت أسئلة واشنطن كثيرة، والرهانات متباينة. أمّا اليوم، فالزيارة تجري في سياق مختلف: المنطقة مضطربة، الاقتصاد العالمي يعيد تموضعه، ورؤية السعودية 2030 أصبحت مشروعاً ناضجاً يفرض نفسه على الطاولة الدولية.
لكن أهم ما يجعل هذه الزيارة حدثاً استثنائياً هو أنّها تمسُّ ثلاثة مسارات مركزية:
- التحالف الأمني الأمريكي–السعودي، الذي يمرّ بإعادة تعريف.
- ميزان القوى العسكري في المنطقة مع اقتراب السعودية من الحصول على مقاتلات F-35.
- مصير القضية الفلسطينية وحلّ الدولتين، وهو المسار الذي يراقبه الفلسطينيون والعرب بقلقٍ وأملٍ في آن معاً.
أولاً: زيارة بوزن استراتيجي… وليست عابرة
في قراءة دقيقة لطبيعة الحراك السياسي المحيط بالزيارة، نجد أن الصحافة الأميركية والعالمية تتعامل معها بوصفها «محطة لإعادة ضبط الشرق الأوسط»، فيما الإعلام العربي يراها «زيارة قوة» تحمل رسائل متعددة الاتجاهات. وبين هذين الخطين، يتحرك ولي العهد السعودي بثقة، مستحضراً إرث العلاقة التاريخية بين البلدين، ورافعة الاستثمارات والقدرات النفطية والاقتصادية الهائلة التي تملكها المملكة.
التقارير الأميركية تكشف أن واشنطن تستعد لاستقبال وفد سعودي عالي المستوى سيتناول ملفات دفاعية حساسة، على رأسها صفقة مقاتلات F-35 وأنظمة تسليح متقدمة، إلى جانب اتفاقات في الطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي والصناعات الدفاعية.
هذه ليست مجرد صفقات، بل رسائل.
فالسعودية التي أعادت رسم أولوياتها منذ 2016، لم تعد تنظر للتحالف مع واشنطن كعلاقة «نفط مقابل أمن»، بل كتحالف متوازن يقوم على مصالح مشتركة طويلة الأمد.
وواشنطن من جهتها، لا تخفي حاجتها إلى استثمارات سعودية هائلة في السنوات الأربع المقبلة، خاصة مع وصول المنافسة مع الصين إلى ذروتها.
ثانياً: معركة الـF-35… سؤال القوة وسؤال السياسة
لعلّ خيط التوتر الأبرز في ملف الزيارة يتعلق بطائرات F-35.
هذه المقاتلات الشبحية التي حرصت واشنطن لعقود على أن تكون حكرًا على إسرائيل في الشرق الأوسط، أصبحت اليوم على طاولة الرياض بشروط باتت قريبة من التحقق.
البيت الأبيض يدرس الطلب السعودي بجدية، والبنتاغون تجاوزه تقنياً. غير أنّ الشق السياسي للصفقة ما زال يمرّ عبر «بوابة إسرائيل»، حيث يشترط الكونغرس الحفاظ على «التفوق العسكري النوعي» لها.
بالمقابل، يتعامل السعوديون مع الملف ببراغماتية واضحة:
هم يريدون المقاتلات، لكنهم يرفضون أن تكون الصفقة مشروطة بتنازلات مجانية أو بتغيير موقفهم الثابت من القضية الفلسطينية.
وإسرائيل، وإن أبدت تحفظات، تدرك أنّ الصفقة مرتبطة بمسار سياسي أكبر، وأن السعودية اليوم ليست دولة هامشية في معادلة المنطقة، بل الرقم الأصعب في معادلة الأمن الخليجي والعربي.
السؤال الحقيقي هنا:
هل تُغيّر F-35 ميزان القوى في الشرق الأوسط؟
نعم، وبشكل ملموس.
ولكن السؤال الأعمق:
هل يُريد الأميركيون شرق أوسط شديد التوازن، بحيث لا تستطيع قوة واحدة الهيمنة منفردة؟
يبدو أن الجواب هو: «نعم… ولكن بحسابات دقيقة».
ثالثاً: الاتفاقية الأمنية… بين الهواجس والفرص
التحالف الأمني السعودي–الأميركي يدخل اليوم مرحلة «إعادة بناء».
فبعد تراجع الثقة في عهد إدارة بايدن، تأتي زيارة الأمير محمد بن سلمان ضمن مسار تفاوضي متقدّم يهدف إلى صياغة اتفاقية أمنية لا ترقى إلى مستوى «معاهدة دفاع مشترك» على غرار اليابان وكوريا الجنوبية، لكنها تمنح السعودية ضمانات أمنية قوية.
أهم ما في الصيغة الجديدة أنها مرنة وتستجيب للتحولات العسكرية السريعة، خصوصاً بعد الهجوم الإسرائيلي في الدوحة الذي أعاد المنطقة إلى حالة توتر شديدة.
السعودية تريد التزاماً أميركياً مكتوباً، وواشنطن تريد شريكاً استراتيجياً صلباً في الخليج قادرًا على تحمل أعباء مرحلة ما بعد الحرب في غزة وما بعدها.
رابعاً: حلّ الدولتين… القلب السياسي للزيارة
بالنسبة للفلسطينيين، فإن زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن لا تعني فقط اتفاقيات عسكرية أو مشاريع اقتصادية، بل تعني سؤالاً أكبر:
هل سيعود حلّ الدولتين إلى الطاولة؟
الحقيقة أن السعودية هي الدولة الوحيدة التي تملك القدرة على إعادة القضية الفلسطينية إلى مركز السياسة الدولية.
وفي عام 2025، دعمت الرياض وفرنسا مؤتمرًا دوليًا لإحياء حل الدولتين، وشكّلت آلية متابعة دولية لضمان التزام الأطراف.
السعودية قالتها بوضوح:
لا تطبيع مع إسرائيل دون دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ووقف الاستيطان والحرب.
هذه المعادلة التي أعلنتها الرياض أصبحت الآن أساس النقاش الأميركي – السعودي، وباتت واشنطن تدرك أن الضغط على إسرائيل بات ضرورة استراتيجية لحفظ استقرار المنطقة.
الفلسطينيون يرون في الموقف السعودي «صمام أمان» يمنع تصفية القضية، ويعيد الاعتبار للمسار السياسي الذي تلاشى منذ سنوات.
وفي ظل الانقسام الفلسطيني وسياسة الأمر الواقع في الضفة وغزة، تبدو الرياض الدولة الوحيدة القادرة على جمع الأطراف تحت رؤية واحدة، شرط وجود إطار دولي واضح يضمن التنفيذ.
خامساً: السعودية… قوة إقليمية بصيغة عالمية
الزيارة تكشف حجم التحول الذي شهدته المملكة خلال سنوات قليلة.
فالدولة التي كانت تُختصر في صورة «قوة نفطية» باتت اليوم قوة استثمارية وتكنولوجية وعسكرية ذات حضور دولي.
رؤية 2030 لم تعد مشروعًا إصلاحيًا داخليًا فحسب، بل أصبحت برنامج نفوذ إقليمي ودولي يغيّر معادلات السوق والطاقة والأمن.
واشنطن تنظر إلى السعودية اليوم كشريك لا يمكن تجاهله:
اقتصادياً: أكبر استثمارات خليجية في الولايات المتحدة في طريقها للزيادة.
سياسياً: لاعب رئيسي في ملف الطاقة العالمية وأمن الملاحة.
عسكرياً: قوة صاعدة تحتاجها واشنطن في مواجهة النفوذ الإيراني والصيني.
هذا التحول يجعل الزيارة ليست مجرد حدث عابر، بل خطوة في إعادة هندسة الدور السعودي على المسرح الدولي.
سادساً: الفلسطينيون… الأمل المعلّق على الرياض
بالنسبة للفلسطيني، كل ما يجري اليوم في واشنطن ينعكس على مستقبله.
فالتحالفات العسكرية قد تُغيّر موازين القوى، لكن المسار السياسي هو الذي يحدد مستقبل الدولة الفلسطينية.
منذ عقود، كانت السعودية الداعم الأكبر للقضية الفلسطينية سياسياً ومالياً.
أما اليوم، فقد أصبحت أيضاً «الضامن الأخير» لعدم تجاوز المبادرة العربية وحلّ الدولتين.
الفلسطينيون يدركون أن أي اتفاق تطبيع لا يمر عبر الرياض لن يكون ذا وزن، وأن أي مسار سلام جديد لا يمكن أن يبدأ دون دور سعودي مباشر.
من هنا، يتابع الشعب الفلسطيني زيارة الأمير محمد بن سلمان بترقب شديد، خصوصاً في ظل المؤشرات على أن واشنطن قد تضغط لفتح مسار سياسي جديد، مقابل تقدم في ملفات الأمن والدفاع مع الرياض.
سابعاً: معادلة واشنطن الجديدة… والسعودية في مركزها
الولايات المتحدة تواجه اليوم تحديات داخلية وخارجية معقدة:
منافسة مع الصين
حرب في أوروبا
توتر مع إيران
اضطرابات في الشرق الأوسط
انتخابات أميركية شديدة الاستقطاب
في خضم هذا كله، تحتاج واشنطن إلى شريك قوي ومستقر في المنطقة.
ولا يوجد اليوم دولة عربية أو شرق أوسطية تجمع بين القوة السياسية، الاقتصادية، المالية، والعسكرية مثل السعودية.
من هنا، يصبح السؤال الحقيقي:
هل تعود معادلة «النفط مقابل الأمن»؟
الجواب: لا.
المعادلة الجديدة أصبحت الأمن مقابل الاستقرار الإقليمي والاستثمار المشترك.
والسعودية باتت طرفاً يملك أوراقاً لا تملكها أي دولة عربية أخرى:
ثقل إسلامي هائل
قيادة عربية مركزية
اقتصاد متنوع
برنامج تسلح متقدم
دور محوري في القضية الفلسطينية
هذا ما يجعل واشنطن تميل اليوم نحو «تحالف استراتيجي متطور»، لا مجرد علاقة تقليدية.
ثامناً: ماذا ينتظر العالم من الزيارة؟
السيناريوهات المحتملة تشمل:
تقدم كبير في ملف الـF-35
توقيع اتفاقيات أمنية متقدمة
إطلاق شراكات ضخمة في الذكاء الاصطناعي والطاقة
تحرك سياسي حقيقي نحو مسار حلّ الدولتين
إعادة تموضع سعودي–أميركي في مواجهة النفوذ الإيراني والصيني
لكن النتيجة الأبرز المتوقعة أن الزيارة ستُعيد رسم حدود القوة في المنطقة، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من العلاقات السعودية–الأميركية أكثر توازناً وعمقاً.
نقول: زيارة تُكتب في التاريخ
في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، تأتي زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن لتكون بمثابة اختبار للعالم:
هل يمكن بناء شرق أوسط مستقر يعتمد على شراكات متينة، لا على صفقات مؤقتة؟
هل يمكن إعادة إحياء حلّ الدولتين ليكون أساس السلام، لا مجرد شعار؟
وهل تستطيع السعودية أن تجمع بين قوة صاعدة ومسؤولية تاريخية تجاه فلسطين والعالم العربي؟
الإجابة تتشكل الآن، في ممرات البيت الأبيض، حيث تجتمع السياسة والأمن والاقتصاد، وحيث تلتقي مصالح العالم بمستقبل المنطقة.
زيارة واشنطن ليست مجرد حدث…
هي بداية مرحلة جديدة تُكتب فيها ملامح الشرق الأوسط القادم.
م. غسان جابر (قيادي فلسطيني) .
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .