
“جيل يكتب، لا يعتذر: تفنيد أوهام النقد الأبوي” ، بقلم : ماتيلدا عواد
عن الخيال، والبنية، والوعظ، وحقّ الكاتب في صوته
ما زال بعض القرّاء يتعاملون مع الكتابة وكأنها صناعة ذات قالب واحد: بداية محفوظة عن ظهر قلب، عقدة جاهزة، نهاية تشبه مفاتيح الخزائن القديمة. وكل خروج عن هذا النمط يُصنَّف فورًا بأنه نقص في الخيال، أو غياب للبنية، أو ميل إلى “الوعظ” بدل السرد.
لكن الحقيقة الأدبية أبعد بكثير من هذه الصورة المدرسية.
فالخيال ليس عدد الوحوش في الحكاية، بل قدرة الكاتب على إعادة تشكيل الداخل الإنساني.
والبنية ليست درجًا ميكانيكيًا، بل قد تكون دائرية، أو مفتوحة، أو نفسية، أو قائمة على كسر الزمن.
أما الوعظ، فليس هو التأمل، ولا طرح الأسئلة، ولا كشف الجروح؛ الوعظ هو صوتٌ يخبر القارئ بما يجب أن يفكر به. الأدب العظيم — منذ بروست حتى وولف — لا يوجّه القارئ، بل يضعه في مواجهة نفسه.
ومن هنا، فإن الحكم على نصّ وجودي أو فلسفي بأنه “افتقار للخيال” ليس نقدًا، بل سوء فهم لطبيعة المدرسة التي ينتمي إليها النص.
ولأن الفارق بين السرد الداخلي والسرد التقليدي يُربك بعض القرّاء، فلا بأس من تقديم أمثلة واضحة:
مقارنة قصيرة بين أسلوبَي السرد
1) نموذج قريب من أسلوبي (السرد الداخلي – تيار الوعي)
«لم أكن أبحث عن خلاصٍ محدّد، كنت فقط أريد أن أصغي للصدى الذي يمرّ داخلي. لذلك كتبت. كتبتُ لأن الأشياء التي لم تحدث كانت أثقل من تلك التي حدثت. ولأن الوجود لم يقدّم لي حكاية جاهزة، صنعتُ لنفسي أبوابًا صغيرة، أفتحها كلما ضاق العالم، وأقول: هذا أنا… مهما اختلفت الطرق من حولي.»
هذا السرد لا يبحث عن حدث خارجي، بل عن تحوّل داخلي، وهو مدرسة عالمية قائمة بحد ذاتها.
2) نموذج تقليدي كما يفضّله بعض الكتّاب
«عاد خالد إلى البيت متأخرًا. وجد الرسالة فوق الطاولة. قرأها سريعًا ثم أدرك أن زوجته رحلت بلا رجعة. حاول اللحاق بها، لكنه وصل متأخرًا. وفي نهاية الليلة، فهم أن خسارته كانت نتيجة إهماله الطويل.»
هذا السرد خطّي، واضح، يعتمد على حدث–عقدة–حل، وهو محترم أيضًا… لكنه ليس الشكل الوحيد للأدب.
فهم خاطئ يتكرر: لماذا يُساء تصنيف السرد الداخلي؟
1) لأن البنية الحداثية مختلفة لا غائبة
البنية اليوم قد تكون:
دائرية
مفتوحة
نفسية
قائمة على مشرط الوعي
محطمة للخط الزمني
وهذه ليست “فوضى”، بل تطوّر طبيعي للأدب.
2) لأن الخيال في النص الفلسفي خيال داخلي لا خارجي
هو خيال يعيد تشكيل:
الذاكرة
الوعي
العلاقات
الزمن
التجربة الشعورية
وهو خيال أصعب وأعمق من خلق وحشٍ في غرفة مظلمة.
3) لأن السرد النسوي والفلسفي يُساء فهمه
حين تكتب المرأة نصًا فلسفيًا أو وجوديًا، يقرأه البعض كـ”بوح” أو “وعظ”.
بينما حين يكتب الرجل الأسلوب ذاته، يسمّى “أدبًا وجوديًا”.
وهذا تحيُّز قديم، لا علاقة له بالجودة.
4) لأن البعض يخلط بين النقد والوصاية
ليس كل كاتب ناقدًا.
والنقد ليس إصدار أحكام نهائية من نوع:
“لن تصبح كاتبة… الناس لا تريد كتبك…”
هذه جمل انفعالية، لا تحمل قيمة نقدية ولا منهجًا.
جيلٌ جديد… لا يقف خلف أحد
ولعلّ ما لا يفهمه بعض من يصرّ على إلقاء الأحكام هو أن الأدب لم يعد ساحة يحتكرها جيل واحد، يوزّع الألقاب ويحدّد من يحق له الكتابة ومن يجب أن يظل تلميذًا إلى الأبد.
ذلك الزمن انتهى.
اليوم هناك جيل جديد:
يكتب من وعيه، لا من وصايا غيره
يقرأ العالم بمنطق مختلف
يرى الأدب امتدادًا للذات، لا امتدادًا للخوف
لا ينتظر ختم موافقة من أحد
هذا الجيل — وأنا فيه —
لا يخشى النقد، لكنه يرفض الوصاية.
لا يكره التوجيه، لكنه لا يقبل انتزاع حقه في التجربة.
ولا يضع قلمه على طاولة تقييمٍ قديمٍ يبحث عن “نسخة مطابقة” لما يعرفه.
استرداد الحقّ في الكتابة ليس تمرّدًا…
إنه استعادة طبيعية لصوت مُصادَر.
وإعلان صريح بأن الأدب لم يعد دفتر حضور لدى أحد.
اليوم، النص هو الحكم الوحيد.
والقارئ الحقيقي هو الامتحان.
أما الأصوات التي تحاول حصر الأدب في شكل واحد،
فسيمضي الزمن من أمامها — كما يمضي دائمًا —
دون أن تنتبه.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .