1:31 مساءً / 13 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

المأزق البنكي الفلسطيني ، بين مطرقة “هبوعليم” وسندان الاقتصاد المكبّل ، بقلم: المهندس غسان جابر

المأزق البنكي الفلسطيني ، بين مطرقة “هبوعليم” وسندان الاقتصاد المكبّل ، بقلم: المهندس غسان جابر

في خضم العواصف السياسية والاقتصادية التي تعصف بالمنطقة، يجد الفلسطيني نفسه من جديد في عين الإعصار، لكن هذه المرة ليس على الحاجز العسكري، بل في البنك.


فحين يخطر بنكا “هبوعليم” و”ديسكونت” الإسرائيليان البنوك الفلسطينية بقطع العلاقات خلال ستين يومًا، لا تكون القضية مجرد معاملة مالية أو مراسلة مصرفية، بل مسألة حياة يومية تمسّ جيب المواطن، وسقف التاجر، ومصدر رزق العامل، وشريان الاقتصاد كله.

ما يحدث اليوم أشبه بمشهد في مسرح عبثي طويل — الفلسطيني فيه هو الجمهور والممثل والضحية في آن واحد.
التحويلات البنكية التي تمثّل شريان التواصل المالي بين الاقتصاد الفلسطيني والعالم تمر في أغلبها عبر البنوك الإسرائيلية، بحكم تبعية الاقتصاد الفلسطيني لاتفاقية باريس الاقتصادية التي كبّلت يديه منذ ثلاثين عامًا.


قطع هذه العلاقات، ولو ليوم واحد، يعني شللًا فوريًا في القدرة على استلام الحوالات، وتحويل الأموال، وتسديد ثمن البضائع، وشراء الوقود والدواء.

محافظ سلطة النقد، الدكتور يحيى شنار، لم يُخفِ خطورة الموقف، فأعلن أن السلطة تجري اتصالات مكثفة مع مختلف الجهات الدولية، من بريطانيا إلى فرنسا، لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وأكد أن هناك سيناريوهات جاهزة وخطة بديلة “لتجاوز الأمر وإن كان ذلك يعني كلفة إضافية”.


لكن السؤال هنا: من سيدفع هذه الكلفة؟


التاريخ الفلسطيني مع “الخطط البديلة” يقول إنها غالبًا تُدفع من جيب المواطن، ذاك الذي لا يملك حسابًا مصرفيًا أصلًا، لكنه يتأثر بكل ليرة تهتز في النظام المالي.

القضية في جوهرها ليست مجرد “خلاف مصرفي”، بل انعكاس عارٍ لعلاقة تبعية مفروضة منذ عقود، حيث لا اقتصاد مستقل دون نظام مالي مستقل، ولا سيادة مالية في ظل خضوع عمليات المقاصة والتحويل للبنوك الإسرائيلية.
منذ بداية العام، بلغت قيمة التحويلات عبر تلك البنوك نحو 18 مليار شيكل، أي أن أي توقف في هذه الحركة، ولو مؤقتًا، يعني توقف نبض الاقتصاد الفلسطيني، الذي يعيش أصلًا على أجهزة الإنعاش.

قد يقول قائل: ما الحل؟


الحل ليس في الصراخ ولا في التباكي، بل في العمل العاقل الهادئ الذي يوازن بين الحلم والواقع، بين الممكن والمأمول.
هناك ثلاث خطوات عملية، قابلة للتطبيق دون أن يُرهق المواطن:

أولًا: بناء قنوات مصرفية بديلة إقليمية.


يمكن للسلطة الفلسطينية أن تُفعّل اتفاقات مصرفية مع دول صديقة كالأردن وقطر وتركيا، عبر مصارفها المركزية، لتكون وسيطًا بديلًا مؤقتًا في التحويلات المالية الدولية.


ليس المطلوب قطع العلاقة مع النظام المالي الإسرائيلي بالكامل، بل إنشاء “نظام ظل” يضمن استمرار الحياة اليومية دون ارتهان كامل لقرار سياسي في تل أبيب.

ثانيًا: تأسيس نظام تحويل إلكتروني وطني.


لدينا العقول والكفاءات لإنشاء منصة دفع وتحويل رقمية فلسطينية بالكامل، بإشراف سلطة النقد، تخفّف الضغط على المعاملات التقليدية، وتربط بين البنوك المحلية وشركات الصرافة بشكل آمن وشفاف.
في زمن التكنولوجيا، لا يجوز أن يظل مصير اقتصاد شعب بأكمله معلّقًا بختم موظف في بنك إسرائيلي.

ثالثًا: إدارة ذكية لتعدد العملات وتعزيز الاحتياطي المحلي.


لا توجد عملة وطنية فلسطينية، لكن يمكن لسلطة النقد أن تدير بذكاء التوازن بين العملات الثلاث المتداولة — الشيكل، الدينار، والدولار — بما يقلّل الاعتماد على التحويلات الخارجية ويعزز القدرة على تغطية الالتزامات اليومية.


كما يمكن تشجيع البنوك المحلية على تنمية الودائع قصيرة الأجل بالعملات المتاحة، وتطوير أدوات ادخار واستثمار محلية، تجعل السوق أكثر قدرة على الصمود أمام أي انقطاع مفاجئ في التدفقات المالية.

لكن، لا يكفي أن نحلم بخطة مالية إنقاذية دون غطاء سياسي موحّد.
حين تكون الفصائل في وادٍ، والشارع في وادٍ آخر، والاقتصاد في الهاوية بينهما، يصبح من العبث أن ننتظر الفرج من اجتماعات بروتوكولية.


القضية تحتاج إلى رؤية وطنية جامعة، لا إلى بيانات متفرقة.

إن أخطر ما يمكن أن يحدث اليوم هو أن يتحوّل المأزق المالي إلى ذريعة جديدة للابتزاز السياسي، وأن يُستخدم الخنق البنكي وسيلة لفرض حلول سياسية قسرية تحت شعار “الاستقرار الاقتصادي”.


ولذلك فإن الموقف الرسمي الفلسطيني يجب أن يكون واضحًا: نعم، نحن نسعى لحل مالي عاجل، لكننا لن نقبل أن يكون الثمن تنازلًا سياسيًا أو سياديًا.

منذ أن وُقّعت اتفاقية باريس، ظل الاقتصاد الفلسطيني يلهث خلف “التسهيلات”، بينما كان الاحتلال يقيّده بخيوط من ورق المصارف ومذكرات التفاهم.


اليوم، بعد ثلاثة عقود، حان الوقت لقطع تلك الخيوط دون أن نقطع الأمل.
فلا يمكن لشعب يسير على أرضه بكرامة أن يبقى يمد يده في جيب غيره ليستنشق هواءه الاقتصادي.

قد يكون الطريق طويلًا وشاقًا، لكن البداية الحقيقية تأتي من الاعتراف بأن ما نعيشه ليس أزمة عابرة، بل اختبار لمدى قدرتنا على بناء اقتصاد مقاوم، مستقل، متجذّر في إرادة الحياة.


وإذا كانت البنوك الإسرائيلية قررت أن تقطع حبل العلاقة خلال ستين يومًا، فربما علينا نحن أن نستغل تلك المهلة لا للبكاء على الأطلال، بل لبناء جسر جديد — بأيدينا، على أرضنا، وبعقولنا.

في النهاية، المأزق الذي نواجهه ليس ماليًا فقط، بل سياديًا بامتياز.
إنه سؤال وجود: هل نريد أن نبقى اقتصادًا ملحقًا يعيش على “إذن عبور مالي”؟
أم نمتلك الشجاعة لنكون أمةً تملك قرارها البنكي كما تملك قرارها السياسي؟

الجواب ليس عند البنوك، بل عندنا نحن.

  • – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل

شاهد أيضاً

قوات الاحتلال تعتقل 40 مواطنا على الأقل من مدن وبلدات ومخميات الضفة الغربية

قوات الاحتلال تعتقل 40 مواطنا على الأقل من مدن وبلدات ومخميات الضفة الغربية

شفا – قال نادي الأسير الفلسطيني، إنّ قوات الاحتلال الإسرائيلي شّنت منذ مساء أمس وحتّى …