
الفاقد التعليمي الفلسطيني… إلى أين؟ وإلى متى؟ بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في وطنٍ يحيا على حافة النزف ويُقاوم بالحلم، يقف التعليم الفلسطيني اليوم على مفترقٍ خطيرٍ من التاريخ. إنّه جرحٌ مفتوح في جسد الوعي الوطني، ينزف منذ سنوات دون توقف، وتتناسل منه الأسئلة الحارقة: إلى أين يتجه التعليم في فلسطين؟ وإلى متى سيبقى طلابنا رهائن للظروف، ضحايا للأزمات، وجسوراً لعبور الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟
لقد أصبح الفاقد التعليمي في فلسطين واقعاً مؤلماً لا يمكن إنكاره ولا تجاهله. فمنذ جائحة كورونا التي أغلقت الأبواب في وجه المدارس وأربكت المنظومة التعليمية، تراكمت الخسارات عاماً بعد عام، وازدادت الفجوة بين ما يجب أن يتعلّمه الطالب وما يُتاح له فعلاً. ثم جاءت الإضرابات المتكرّرة، وما تبعها من اضطرابات اقتصادية ومالية، لتضاعف الأزمة وتزرع القلق في قلوب الأهالي والطلاب والمعلمين على حدّ سواء. وكأنّ هذا لم يكن كافياً، حتى اجتاحت آلة الحرب الإسرائيلية المدن والمخيمات، فدمّرت مدارس، وشردت أطفالاً، وحوّلت الصفوف إلى ملاجئ والكتب إلى رماد.
واليوم، يُختصر العام الدراسي بثلاثة أيام دوام أسبوعياً! أيعقل أن تُبنى العقول في ثلاثة أيام؟ أيمكن أن نستعيد ما ضاع من سنواتٍ في زمنٍ مقتطعٍ كهذا؟ كيف لطالبٍ يعاني منذ خمس سنوات من الانقطاع المتكرر أن يستوعب المنهج، وأن يتقن المهارات، وأن يؤمن بأن التعليم ما زال قادراً على انتشاله من ضياعه؟ إنّ ثلاثة أيام لا تصنع معرفة، ولا تزرع انتماءً، ولا تُبنى عليها أمّة. نحن بحاجةٍ ماسّةٍ إلى زيادة أيام الدوام المدرسي إلى الحدّ الأقصى الممكن، فكل يومٍ يضاف إلى جدول التعليم هو خطوة نحو إنقاذ جيلٍ بأكمله.
نحن نقف بصدقٍ مع المعلمين والمعلمات، فهم عماد البناء وحراس الحلم، وهم الذين يضيئون عتمة الغياب بروحهم الصابرة وإيمانهم برسالتهم. من حقهم أن ينالوا رواتبهم كاملة، وأن يعيشوا حياةً كريمة تليق بعطائهم. ولكننا في الوقت ذاته نعيش ظرفاً وطنيّاً استثنائياً، يتطلب وعياً جماعياً ومسؤولية مضاعفة. فالطالب الفلسطيني اليوم هو الضحية الأولى لهذا الواقع، يليه الأهل الذين يعانون من العجز المادي، والمعلم الذي يقف بين واجبه المهني وألمه المعيشي.
إنّ الحلّ لا يكمن في القرارات السريعة ولا في تبادل اللوم، بل في إرادة وطنية واعية تضع التعليم في مقدمة الأولويات، لأنّ التعليم هو آخر خطوط الدفاع عن الهوية الفلسطينية.
ولذلك، فإنّ الخطوات العاجلة والواقعية المطلوبة لإنقاذ التعليم الفلسطيني يمكن أن تشمل ما يلي:
- زيادة أيام وساعات الدوام المدرسي في جميع المراحل التعليمية، واستثمار العطلات والأوقات غير المستغلة لتعويض المهارات والمعارف المفقودة، مع تنظيم برامج دعم مكثفة للطلبة الأكثر تضرراً.
- إطلاق برنامج وطني شامل لتعويض الفاقد التعليمي، يشمل خططاً زمنية واضحة، وتعاوناً بين المدارس والمعلمين والجامعات والمجتمع المحلي، بهدف معالجة الضعف الأكاديمي والنفسي الناتج عن الانقطاعات الطويلة.
- تعزيز الدعم النفسي والاجتماعي للطلاب والمعلمين، لا سيما أولئك الذين فقدوا بيوتهم أو عاشوا مشاهد الحرب والاجتياح، فالتعليم لا يستقيم دون استقرارٍ نفسيٍّ آمن.
- تدريب وتأهيل المعلمين بشكل مستمر لمواجهة آثار الفاقد التعليمي بوسائل حديثة، تعتمد على استراتيجيات الإبداع والتحفيز والتعلّم النشط.
- فتح باب التطوع أمام الخريجين الجدد والمتقاعدين من ذوي الخبرة، للانضمام إلى المدارس الحكومية أو المشاركة في التعليم الإلكتروني عن بُعد (أونلاين)، وكذلك دعوة الباحثين والأكاديميين لإجراء دراسات ميدانية حول الفاقد التعليمي الفلسطيني، تكون مرجعاً للسياسات التعليمية المستقبلية.
إنّ التعليم في فلسطين ليس مجرد منظومةٍ إدارية، بل هو معركة وعيٍ وهويةٍ وصمود. ومن يفرّط فيه يفرّط في المستقبل كله. إنّ الطالب الفلسطيني الذي يذهب إلى مدرسته في ظلّ القصف هو أعظم شاهدٍ على أن العلم في فلسطين مقاومة، وأن الكلمة لا تقلّ شرفاً عن الرصاصة.
يا وزارة التربية والتعليم، يا نقابة المعلمين، يا أصحاب القرار والضمائر:
التاريخ يسجّل، والأجيال تنتظر، والأوطان لا تُبنى على أنقاض التعليم. افتحوا أبواب الحوار، مدّوا الجسور، واصنعوا حلولاً تنقذ ما تبقّى من هذا النور المتعب. إنّ المدرسة ليست جدراناً فحسب، بل وطنٌ صغير يحتضن أحلام الكبار والصغار.
فلنصرخ جميعاً من قلب فلسطين الجريحة:
أنقذوا التعليم قبل أن يغيب في غبار الحرب والفقر والخذلان.
أعيدوا للمدارس نبضها، وللمعلمين كرامتهم، وللطلاب حقهم في أن يحلموا بمستقبلٍ لا ينهشه الغياب.
فالعلم في فلسطين ليس مجرد درسٍ في كتاب، بل هو رسالة خلودٍ ومقاومةٍ وإيمانٍ بأن الغد لا بدّ أن يولد أجمل مهما طال الليل واشتدّ الألم.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .