1:31 مساءً / 8 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

كيف سيكون شكل العالم بعد زوال الكيان الصهيوني؟ بقلم : أ. خليل ابراهيم ابو كامل

كيف سيكون شكل العالم بعد زوال الكيان الصهيوني؟ بقلم : أ. خليل ابراهيم ابو كامل

كيف سيكون شكل العالم بعد زوال الكيان الصهيوني؟ بقلم : أ. خليل ابراهيم ابو كامل

يبدو هذا السؤال، للوهلة الأولى، ضربًا من الخيال أو تمرينًا في الحلم السياسي. فالعالم اليوم، وقد اعتاد وجود “إسرائيل” كحقيقة مفروضة منذ أكثر من سبعين عامًا، يظن أن هذا الكيان جزءٌ من الطبيعة الجغرافية أو من النظام الدولي الراسخ. لكنّ الحقيقة التاريخية البسيطة تقول إن ما بُني على الظلم، وعلى أنقاض شعبٍ آخر، لا يمكن أن يدوم. ففكرة زوال الكيان الصهيوني ليست دعوة إلى الانتقام أو الفناء، بل إلى تحرّر الإنسان من أكثر مشاريع القرن العشرين عنصرية واستعمارًا، وإعادة الاعتبار للعدالة كمبدأ كوني جامع. والسؤال إذن ليس: هل سيزول الكيان؟، بل: كيف سيكون العالم بعد زواله؟

إنّ تخيّل العالم بلا “إسرائيل” هو تخيّلٌ لعالم أكثر صدقًا مع ذاته، وأكثر اتساقًا بين شعاراته وممارساته. عالم لا يحكمه منطق القوة والعنصرية والتفوّق، بل منطق الحق والكرامة والإنسانية. وحين نتأمل المشهد في عمقه، ندرك أنّ زوال الكيان الصهيوني لن يكون حدثًا محليًا فحسب، بل تحوّلًا حضاريًا عالميًا يعيد ترتيب المفاهيم والسياسات، ويُحدث مراجعة عميقة في ضمير الإنسانية.

منذ قيامه، لم يكن هذا الكيان دولةً طبيعية، بل مشروعًا استعماريًا إحلاليًا، تأسس على محو الآخر، لا على التعايش معه. كان نموذجًا صارخًا لتطبيق فكرة الاستعمار الأوروبي القديم في قلب المشرق العربي، في زمن ما بعد الاستعمار. وقد حافظ على بقائه عبر ثلاث ركائز: الدعم الغربي المطلق، والهيمنة العسكرية، والتفوق الدعائي في الخطاب الدولي. لكن هذه الركائز بدأت تتآكل أمام صمود الشعب الفلسطيني، وتحوّل الوعي العالمي، وتبدّل موازين القوة في النظام الدولي.

وحين تسقط آخر مظاهر هذا المشروع، لن يكون ذلك مجرد نهاية كيان سياسي، بل انتهاء لمرحلة كاملة من التاريخ البشري، كانت فيها العدالة مجرد شعار، وكانت الضحية تُجَرَّم والمحتل يُحتفى به. زوال الكيان يعني أن الحقيقة استطاعت أن تصمد، وأن الذاكرة لم تُمحَ رغم كل محاولات الطمس والتزييف.

في اليوم الذي يلي زوال الكيان، ستتبدّل خريطة الوعي قبل أن تتبدّل خريطة الأرض. ستنفتح فلسطين، تلك الأرض التي صارت رمزًا عالميًا للمقاومة، على أفق جديد من الحياة: حياةٍ لا تحرسها البنادق، بل تُظلّلها الكرامة. سيستعيد اللاجئون حقهم الطبيعي في العودة إلى مدنهم وقراهم التي لم تفارق ذاكرتهم يومًا، وسيُعاد بناء المجتمع الفلسطيني على أساس العدالة والمواطنة المتساوية. لن تكون فلسطين بعد التحرر مجرد دولة جديدة تُضاف إلى الأمم، بل فكرة جديدة للإنسانية، تبرهن أن مقاومة الظلم ليست عبثًا، وأن النصر ممكن ولو تأخر.

أما المنطقة العربية، فستخرج من عقدة الهزيمة التي كبّلت وعيها منذ 1948. ستستعيد الشعوب العربية ثقتها بأن التغيير ممكن، وأن الاحتلال ليس قدرًا أبديًا. ستتحرر الأنظمة من ذرائع الخوف، وسيُعاد توجيه البوصلة نحو البناء الداخلي، لا التبعية الخارجية. سيولد جيل عربي جديد، يتربى على فكرة السيادة والكرامة بدل الاستسلام والارتهان. فزوال الكيان الصهيوني سيكون بمثابة تحريرٍ للوعي الجمعي العربي من عقدة الضعف والرضا بالواقع.

على المستوى العالمي، سيكون لهذا الحدث أثر يشبه الزلزال الأخلاقي. فمنذ عقود، يعيش الغرب في تناقضٍ فاضح بين مبادئه المعلنة ودعمه غير المشروط لدولةٍ تمارس الفصل العنصري والتمييز العرقي بشكل ممنهج. وحين تزول “إسرائيل”، ستنكشف أمام العالم تلك الازدواجية الأخلاقية التي لطالما عطّلت إمكان قيام نظام دولي عادل. سيضطر الغرب إلى مراجعة إرثه الكولونيالي، وإلى إعادة التفكير في مفهوم التحالفات الذي بُني على الهيمنة لا على القيم. وستكون تلك المراجعة فرصة حقيقية لإعادة الاعتبار للعدالة كقيمةٍ إنسانية شاملة لا تخضع لحسابات المصالح.

كذلك، سيشهد النظام الدولي تحوّلًا في موازين القوى. فالمشروع الصهيوني كان دائمًا جزءًا من هندسة النفوذ الغربي في الشرق الأوسط. ومع اختفائه، ستُفتح المنطقة أمام نماذج جديدة من التعاون الإقليمي القائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. ستتراجع صناعة الحرب وتجارة السلاح التي غذّاها الصراع، وستتجه الموارد نحو التنمية والبناء. وستكون فلسطين – بعد تحررها – مركزًا جديدًا للسلام العادل، لا السلام المفروض، ومختبرًا لنموذجٍ من التعايش الإنساني الحقيقي بين مكوّناتها الدينية والثقافية.

إنّ نهاية الكيان الصهيوني ليست نهاية لليهود، كما يحاول الخطاب الصهيوني أن يوهم العالم، بل نهاية لاستخدام الدين لتبرير الاستعمار والتمييز. فزوال هذا الكيان سيفتح الباب أمام مصالحةٍ تاريخية بين الديانات، حين يتحرر اليهود أنفسهم من أَسْر الأيديولوجيا التي اختطفت تاريخهم وجعلت منهم وقودًا لمشروع سياسي استعماري. في فلسطين الجديدة، لن يكون هناك مكان للكراهية، بل مساحة للعدالة التي تُنصف الجميع.

على المستوى الأخلاقي، سيمثل هذا الحدث عودة التوازن للضمير الإنساني. فالعالم الذي صمت طويلًا أمام المجازر والحصار والتمييز، سيكتشف أنه كان شريكًا في الجريمة بصمته. وحين يزول الكيان، سيكون ذلك بمثابة غفرانٍ متأخرٍ للإنسانية لذاتها، واعترافٍ بأن العدالة لا تسقط بالتقادم. وستتحرر الأمم المتحدة ومنظمات العالم من عقدة الخوف من “الفيتو” الأمريكي، حين تدرك أن إرادة الشعوب هي التي تصنع الشرعية لا قرارات القوى الكبرى.

أما في الوعي الإنساني العام، فستصبح فلسطين بعد التحرر رمزًا عالميًا لإمكان التغيير. كما كانت جنوب إفريقيا في نهاية نظام الفصل العنصري، وكما كانت فيتنام بعد طرد الاحتلال الأمريكي، ستكون فلسطين نموذجًا لما يمكن أن تفعله الإرادة البشرية حين تتشبّث بالحق. وسينتقل أثرها إلى حركات العدالة في العالم، من مناهضة العنصرية في أمريكا اللاتينية، إلى حركات التحرر البيئي والاجتماعي في أوروبا وآسيا. فالقضية الفلسطينية كانت دائمًا مرآةً تعكس صراع العالم بين الحق والباطل، بين الإنسان وقوى الطغيان، وزوال الكيان الصهيوني سيمنح هذا الصراع معنًى جديدًا أكثر نقاءً ووضوحًا.

سيقول البعض إن هذا المشهد مثالي، أو بعيد المنال، لكن التاريخ الإنساني كله قائم على تحولاتٍ كانت تبدو مستحيلة. من سقوط الإمبراطوريات إلى انهيار جدار برلين، من تحرر الجزائر إلى نهاية الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، كل ذلك حدث لأن الشعوب لم تستسلم لفكرة “الواقع الدائم”. وكذلك فلسطين؛ فزوال الكيان ليس خيالًا، بل نتيجة منطقية لمسارٍ من الظلم لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. فالاستعمار بطبيعته يحمل بذرة فنائه في داخله، لأنه يقوم على الإكراه لا على القناعة، وعلى القهر لا على الشرعية.

ولعلّ أعظم ما سيحدث بعد زوال الكيان، هو تحرر الفلسطيني نفسه من عبء الدفاع عن حقه. فطوال عقود، اضطر الفلسطيني إلى تبرير وجوده، وإثبات إنسانيته أمام عالمٍ يُكافئ جلاده. وحين تزول منظومة الاحتلال، سيصبح الفلسطيني حرًا في أن يعيش، لا أن يُبرر وجوده. سيُعيد بناء ذاته، ثقافته، ومدينته، وسيُعيد كتابة التاريخ من وجهة نظره هو، لا من رواية الآخر.

سيُعاد إحياء القرى التي مُسحت من الخرائط، وستُفتح عيون الأطفال على أسماء الأماكن كما كانت تُنطق قبل النكبة. سيعود البحر إلى يافا، والرّوح إلى القدس، والماء إلى النقب، وسيعود الإنسان إلى ذاته. وستغدو فلسطين نموذجًا لدولةٍ مدنية ديمقراطية قائمة على المساواة والعدالة الاجتماعية، لا على الثأر أو الإقصاء. فالقيمة الكبرى للتحرر لا تكمن في سقوط الجدران، بل في بناء الإنسان الحر الذي لا يُعيد إنتاج القهر بصورةٍ أخرى.

عندها فقط، سيتنفس العالم هواءً جديدًا. ستتراجع الكراهية في الشرق والغرب، لأن أحد أكبر أسبابها – ازدواجية الموقف من فلسطين – سيزول. وستُفتح صفحة جديدة في العلاقات الدولية، لا تقوم على منطق “القوي دائمًا على حق”، بل على منطق “الحق هو ما يمنح القوة معناها”. سيتحوّل الشرق الأوسط من بؤرة توتر إلى مركزٍ للحوار الحضاري، وستكون فلسطين المحررة قلب هذا التحول.

إنّ تخيّل العالم بعد زوال الكيان الصهيوني ليس دعوة إلى حرب، بل إلى سلامٍ عادلٍ ممكن، سلامٍ لا يقوم على التنازل عن الحقوق، بل على استعادتها. هو حلمٌ بالإنسان حين يتحرر من الخوف، وبالعالم حين يواجه نفاقه، وبالعدالة حين تنهض من تحت الركام.

سيأتي اليوم الذي نرى فيه هذا العالم، ليس لأننا نحلم كثيرًا، بل لأننا نعرف – كما قال محمود درويش – أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، وأن ما يُبنى على القهر لا يدوم، وأن الحق مهما طال غيابه، يعرف طريق العودة.

وحين يعود الحق، ستعود فلسطين، ومعها سيولد العالم من جديد.


أ. خليل ابراهيم ابو كامل
مدير عام مؤسسة فلسطين تعطي-PalGives

شاهد أيضاً

قوات الاحتلال تقتحم تقوع جنوب شرق بيت لحم وتداهم منزلا

قوات الاحتلال تقتحم تقوع جنوب شرق بيت لحم وتداهم منزلا

شفا – اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم السبت، بلدة تقوع، جنوب شرق بيت لحم. وأفادت …