
سلفيت بين صورتين ، ومدينة الزيتون التي لا تشيخ ، تصوير المبدع طالب سليم ، بقلم : د. وليد العريض
وبدايتي:
ليست الصورتان عن شارع العين في سلفيت مجرد لقطة بين زمنين؛
إنهما مرآةُ ذاكرةٍ ممتدةٍ على خمسين عامًا من الضوء،
بين الهدوء الذي كان يُشبه صلاةَ الفجر
والحركة التي باتت تُشبه نبضَ قلبٍ لا ينام.
في الأولى، عدسةُ المصوّر طالب سليم، الشابّ الذي التقط وجهَ المدينة بعينٍ من حنينٍ وحب
وفي الثانية سلفيت الحديثة وهي تمضي في اتساعها الواثق نحو الغد
بينما تبقى العينُ القديمة – العين الشامية – شاهدةً على أن الماء لا يشيخ
وأن المدينة التي وُلدت من النقاء لا تموت.
ونصي يقول:
كانت منطقة العين قلبَ سلفيت النابض بالحياة،
تبدأ يومها بصوت الماء المتدفق من النبع،
وتنهيه عند ضوء قنديلٍ صغيرٍ على باب بيتٍ من حجرٍ وطمأنينة.
كانت الأرض تنبض طيبةً،
والناس يمرّون كأغنيةٍ ريفيّةٍ ناعمةٍ في نهارٍ طويلٍ من زيتٍ وزيتون.
في تلك الأيام، كان أبو شريف زهد، الرجل الطيب،
مدير التشغيل الذي لا يحتاج إلى دفترٍ ولا آلةٍ لتسجيل الناس،
فهو يعرفهم واحدًا واحدًا،
يكتب المواليد والوفيات بخطٍّ من صدقٍ ووجدان،
يُصافح الطفل المولود بابتسامة،
ويُودّع الميت بدمعةٍ صامتةٍ ورضا المؤمن.
وعلى مقربةٍ من النبع، كان الحلاق يجلس مبتسمًا،
يحمل مقصّه كأداة حبٍّ لا مهنة،
يزيّن وجوه الناس كمن يزرع البهجة في وجه البلدة،
ومن بعده أكمل أبناؤه المسيرة،
ومن بينهم الشيخ أبو اشرف صاحب الصوت الجميل في “الشبّابة”،
ذاك الصوت الذي ما زال يملأ أفراح البلدة بروحها الأولى.
وهناك أيضًا طعيمة وزوجته،
من رموز العين وأهل الثورة في فلسطين ،ورغم أنهما كانا عجوزين الا انهم مصدر راحة لكل من يجلس معهما، فهما محطة استراحة لكل المارين من ذاك الطريق إلى اعمالهم .
أما الحاج عارف عفانة فكان يجلس في كرمه،
تحت شجرةٍ تظلّل الطريق،
يُراقب المارّة بعينٍ راضيةٍ وابتسامةٍ هادئة،
يُقلب فنجانه على الطاولة الخشبية ويقول:
“كلّ شيءٍ بخيرٍ ما دام الماء يجري والزيتون يُثمر.”
كانت تلك سلفيت القديمة:
صافيةً كينبوعٍ من الضوء،
هادئةً كصلاةٍ على الأرض،
طاهرةً كالندى على أوراق التين.
ثم جاءت الصورة الثانية…
سلفيت الحديثة وقد تمدّدت نحو الأفق،
تغيّرت الملامح، لكن القلب هو القلب.
الطريق الذي كان دربًا ترابيًّا صار شارع العين،
شريانًا نابضًا بالسيارات والمحالّ والأضواء،
مدينة تزهو بنظافتها وأناقتها،
وتُعدّ أرقى وأنظف مدن فلسطين منذ سنواتٍ طويلةٍ متتالية اكثر من عمر الصورة،
ليس لأن شوارعها فقط نقيّة،
بل لأن قلوبَ أهلها أنقى من الماء.
ولم يكن ذلك غريبًا على مدينة الزيتون والينابيع،
التي تفوح بخُضرتها وبطيب أهلها،
إذ تضمُّ نحو تسعةٍ وتسعين نبعًا تتوزّع كالأوردة في جسدها،
منها: العين الشامية، عين القبلة، المطوي، الشلال، عدس، العصافير، سوجا، عين الشاعر، كركوم، عين الباطن وغيرها من عيونٍ لا تعرف الجفاف.
إنها مدينة الماء والزيت والذاكرة،
مدينةٌ لا تعرف الجوع، لأنّ أهلها يُطعِمون الآخرين
ولا تعرف القسوة، لأنّ الخير يسكن في أفئدتهم،
ولا تعرف الغياب، لأنّ الحنين يملأ كل حجرٍ فيها.
وخاتمتي
بين صورتين وبين خمسين عامًا
تمتدُّ سيرةُ مدينةٍ لا تزال تتوضّأ بمائها كلَّ صباح
ولا تزال تُطلّ على فلسطين كابتسامةٍ من نور.
في سلفيت تتعانق الأزمنة
يصافح الماضي الحاضر
وتظلّ العين الشامية تروي الناس والمكان بالحياة
كما لو أن النبع يعرف أسماء الذين شربوا منه جميعًا.
وهديتي :
تحيّة إلى عين الذاكرة وعدسة الزمن
إلى الأخ طالب سليم
المصوّر البارع الذي التقط بعينه النقية وجهَ سلفيت القديم،
ووضع في عدسته ذاكرةَ مدينةٍ بأكملها
إليكَ كلُّ الامتنان والتقدير،
فقد حفظتَ لنا بلمسة الضوء ما لا تحفظه الكتب
وأعدتَ إلى الذاكرة رائحةَ الزمن الجميل.
ولكلِّ أهلنا في سلفيت الطيبة
مدينة الزيتون والينابيع والكرامة
لكم التحية والوفاء
ولمدينتكم التي لا تجفُّ فيها الينابيع ولا القلوب…
سلامٌ عليكم
كما السلام على الماء والزيتون
والسماء.
قصيدة في حب سلفيت – مدينة الزيتون
سَلْفيتُ يا نَغَمَ الينابيعِ إذْ تَهْدِلُ في الصباح،
يا رُوحَ زيتونةٍ خضراءَ تُصلّي على خدِّ الرياح.
يا وجهَ أرضٍ لم تُبدِّلها المواسمُ
ولا مرَّتْ عليها الخيانةُ إلّا وعادت طاهرةَ الجِراح.
فيكِ الماءُ نبيٌّ والزيتونُ شهيدٌ
وفي ظلالكِ ينامُ الحنينُ مطمئنَّ القلبِ والملامح.
يا مدينةَ الينابيعِ والتاريخِ
كم وضعتِ على جبينِ الوطنِ عِطرَ الطُّهرِ والفلاح!
هنا العينُ الشاميةُ تروي الذاكرة
وهناكَ كركومٌ والعصافيرُ وسوحا تتهامسُ بالأغاني
وعدسٌ يفيضُ كرائحةِ المطرِ على أطرافِ البيادر
تُباركُها السماءُ كلَّ فجرٍ
وتُقبّلُها يدُ الحنينِ كلَّ مساء.
سلفيتُ… يا زهرةَ الأرضِ الفلسطينية
يا أنظفَ المدنِ قلبًا ووجهًا
يا مأوى الخيرِ حين يضيعُ من المدن
يا مدينةً لا تجوعُ لأنّها تُطعِمُ الآخرين.
تَظَلّينَ نبعَ النقاءِ في وطنٍ أنهكهُ العطش،
وزيتونةَ الدهرِ التي لا تميلُ إلّا نحو النور.
- – د. وليد العريض – مؤرخ، أديب، شاعر، وكاتب صحفي
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .