5:51 مساءً / 30 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

من تراجع الوعي إلى مقاومة المعنى ، بقلم : محمد علوش

من تراجع الوعي إلى مقاومة المعنى ، بقلم : محمد علوش

يعيش المشهد الثقافي في فلسطين والعالم العربي اليوم حالة من الالتباس العميق، تتأرجح بين وعود النهضة وأسئلة الانكسار، بين الحاجة إلى تجديد الفكر والممارسة من جهة، والعجز عن تجاوز الأطر التقليدية والولاءات الضيقة من جهة أخرى، وإنّ ما نشهده ليس مجرد أزمة في الإبداع أو في المؤسسات الثقافية، بل هو أزمة وعي حضاري شامل تتقاطع فيها السياسة بالثقافة، والاقتصاد بالهوية، والذاكرة بالمستقبل.


لقد تراجعت الثقافة العربية عن دورها الطليعي في إنتاج المعنى وتوجيه الوعي الجمعي، وبعد أن كانت في الخمسينات والستينات طاقةً ملهمة للمقاومة والتحرّر وبناء المشروع القومي والوطني، أصبحت اليوم هامشاً في زمن تتكاثر فيه الخطابات وتختفي فيه البوصلة، حيث اختزل الفعل الثقافي في مناسبات استعراضية، واحتفالات شكلية، وكتابة تعيد إنتاج المألوف دون مساءلة عميقة للأسئلة الكبرى التي تعصف بواقعنا العربي والفلسطيني.


في فلسطين، تتضاعف المعضلة؛ فالثقافة هنا ليست ترفاً فكرياً أو نشاطاً نخبوياً، بل هي فعل مقاومة وبقاء، ومع ذلك، فإنّ الحصار المادي والرمزي الذي يفرضه الاحتلال، إضافة إلى الانقسام السياسي وتشتت المؤسسات، جعل المشهد الثقافي يئنّ تحت وطأة التهميش، فالمثقف الفلسطيني الذي كان يوماً ضمير الوطن وصوت القضية، بات محاصراً بين ضغوط الواقع وقسوة التجاهل، وبين خطاب يراد له أن يكون تجميلياً وخطاب يبحث عن أصالة في زمن التزييف.


غير أنّ الأزمة ليست فقط في الخارج، بل في داخل البنية الثقافية ذاتها، فالكثير من المؤسسات والاتحادات الثقافية فقدت روحها النقدية، وتحولت إلى هياكل بيروقراطية تستهلك التاريخ ولا تصنع المستقبل، والمثقف نفسه، في كثير من الأحيان، أصبح أسير التوازنات والجوائز والولاءات، يكتب ما يرضي لا ما يدهش، ويتحدث بلغة الخشية لا بلغة الحلم.
إنّ المطلوب اليوم هو استعادة الوظيفة التاريخية للثقافة بوصفها أداة وعي وتحرّر، لا مجرد نشاط ترفيهي أو واجهة رمزية، ولا يمكن أن تنهض الثقافة من دون مشروع وطني تحرّري شامل، ولا يمكن للمثقف أن يكون فاعلاً ما لم يتحرّر من الخوف ومن إغراءات المنابر السريعة، ونحن بحاجة إلى “ثقافة مقاومة” بمعناها الواسع، أي ثقافة تعيد الإنسان إلى مركز الفعل، وتربط الإبداع بالفعل الاجتماعي والسياسي، وتفتح أسئلة المستقبل بدل أن تتغنّى بأمجاد الماضي.


لقد آن الأوان لإطلاق حوار ثقافي عربي – فلسطيني جديد، يعيد النظر في دور المثقف في زمن العولمة والهيمنة الرقمية، ويعيد الاعتبار لفكرة “الاستقلال الثقافي” في مواجهة ثقافة السوق والاستهلاك، فالمعركة اليوم ليست فقط على الأرض، بل على المعنى ذاته؛ وعلى الذاكرة واللغة، وعلى الوعي بما نحن عليه وما نريد أن نكونه.


إنّ تجديد الثقافة لا يتم بقرارات وزارات أو بإنشاء مؤتمرات موسمية، بل بإعادة بناء العلاقة بين الفكر والحياة، بين المثقف والمجتمع، وبين النص والشارع، ووحدها الثقافة القادرة على مساءلة الواقع وتفكيك آليات الهيمنة والاستلاب، وهي التي تستحق أن تسمّى ثقافة حقيقية.


إنّ المستقبل الثقافي العربي والفلسطيني مرهون بقدرتنا على إنتاج وعي جديد لا يخاف من النقد، ولا يكتفي بالتغنّي بالماضي أو اجترار الشعارات، فالثقافة، في جوهرها، ليست حفظاً للهوية فقط، بل خلقاً متجدداً لها في مواجهة النسيان.
قد نكون اليوم في لحظة انكسار، لكنّ التاريخ علّمنا أن الوعي لا يموت، وأنّ الشعوب التي تكتب وتبدع وتحلم، قادرة على النهوض مهما طال الليل، وإنّ خلاص الثقافة العربية والفلسطينية يبدأ من لحظة الصدق مع الذات، ومن شجاعة السؤال: أيّ ثقافة نريد؟ ولأيّ مستقبل نكتب؟

⦁ – محمد علوش – شاعر وكاتب فلسطيني

شاهد أيضاً

متحدث: الصين تحث حكومة باراغواي على الإنصات لنداء شعبها واتخاذ القرار الصحيح

شفا – تحث الصين حكومة باراغواي على الإنصات إلى نداء شعبها، واتّباع المسار الصحيح في …