4:21 مساءً / 27 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

المنهاج الفلسطيني : من وطنية الشعار إلى توطين المعرفة ، بقلم : نسيم قبها

المنهاج الفلسطيني : من وطنية الشعار إلى توطين المعرفة ، بقلم : نسيم قبها

تمهيد: من الإشكالية إلى الرؤية

تشكل المعرفة مجال صراع وجودي في السياق الفلسطيني، حيث تتحول المناهج التعليمية إلى فضاء للصراع بين قوى الاستلاب الحضاري وإرادة البقاء. وفي هذا السياق، تنبثق ضرورة التمييز الجوهري بين “الوطنية” كشعار قد يتحول إلى قشرة شكلية، و”التوطين” كمشروع وجودي ينطلق من الذات ويؤسس للمستقبل. فبينما قد تتحول الوطنية إلى خطاب طقوسي يكرس التبعية تحت غطاء براق، يأتي التوطين كمشروع تحرري يستعيد الهوية ويؤسس للمعرفة من داخل المنظومة الثقافية الفلسطينية.

التوطين كفلسفة وجودية

لا يشير توطين المناهج إلى مجرد عملية تقنية لتبيئة المعرفة المستوردة، بل هو مشروع فلسفي وجودي يستعيد علاقة الإنسان الفلسطيني بمكانه وزمانه وهوّيته. إنه نقلة من التلقي السلبي للمعرفة الكونية إلى الإنتاج النشط للمعرفة المحلية، من موقع الذات الفاعلة لا التابع المفعول به. فالتوطين يفترض أن الأرض ليست مجرد مكان جغرافي، بل هي وعاء الحضارة وحاضنة الهوية ومصدر المعرفة.

في الفلسفة التربوية، يمثل التوطين تحولاً من بيداغوجيا التلقين إلى بيداغوجيا التمكين، حيث يصبح المتعلم شريكاً في إنتاج المعرفة بدلاً من مستهلك سلبي لها. إنه الانتقال من المنهاج كأداة للتنميط الثقافي إلى المنهاج كأداة للتحرر الثقافي.

الوطنية الشكلية وإشكالية التبعية

أما “وطنية المناهج” كمفهوم شكلي، فقد تتحول إلى مجرد طلاء سطحي يخفي تحته هيكلاً مستعاراً. فكم من منهاج يرفع شعار الوطنية وهو في جوهره نسخة مشوهة عن مناهج المستعمر، يكرس التبعية الفكرية والثقافية تحت شعارات براقة. إن الوطنية الحقيقية لا تكمن في تكرار الشعارات بل في تأصيل المناهج من داخل التراث الحضاري والبيئة الثقافية الفلسطينية.

تواجه المناهج الفلسطينية إشكالية مزدوجة: فمن جهة، هناك ضغط العولمة الذي يسعى لتذويب الهوية، ومن جهة أخرى، هناك إرث الاحتلال الذي حاول ويحاول طمس الهوية الفلسطينية. في هذا السياق، تتحول الوطنية الشكلية إلى خيانة للهوية الحقيقية، بينما يصبح التوطين مشروع مقاومة وجودية.

أسس التوطين الفلسفية والتربوية

توطين المعرفة:


يبدأ التوطين بتأصيل المعرفة في التربة الفلسطينية، بحيث تنبثق من واقع الشعب الفلسطيني وتاريخه وتراثه وتحدياته. فالتاريخ لا يُدرّس كحكايات من الماضي، بل كوعي بالذات وإدراك للحاضر واستشراف للمستقبل. والجغرافيا لا تُدرّس كخرائط جامدة، بل كعلاقة حية بين الإنسان والأرض، وكفهم للصراع على المكان.

توطين اللغة:


اللغة ليست أداة اتصال فحسب، بل هي وعاء الفكر وناقلة الثقابة وحاملة الهوية. توطين اللغة يعني تحويلها من لغة تلقين إلى لغة تفكير وإبداع، من لغة توصيل إلى لغة تمكين. إنها الانتقال من تعليم اللغة إلى التعليم باللغة، بحيث تصبح أداة لإنتاج المعرفة لا مجرد نقلها.

توطين القيم:


لا يعني التوطين الانغلاق على الذات، بل الانفتاح على العالم من موقع القوة لا الضعف. فهو يؤسس لقيم الانتماء والهوية كأسس للتفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى، لا كحواجز للانعزال عنها.

توطين المناهج كبيداغوجيا تحرر

في إطار البيداغوجيا النقدية، يمثل التوطين مشروع تحرر من التبعية الفكرية والثقافية. إنه يستلهم أفكار باولو فريري في “بيداغوجيا المقهورين”، حيث يصبح التعليم أداة للتحرر لا للتكييف، وللمقاومة لا للاستسلام.

التوطين بيداغوجيا يعني تحويل الفصل الدراسي إلى فضاء حوار نقدي، حيث يمارس المتعلمون التفكير النقدي في واقعهم، ويشاركون في إنتاج المعرفة المتصلة بهويتهم وتاريخهم وتحدياتهم. إنه تحول من التعليم كتلقين إلى التعليم كحوار، ومن المعرفة كسلعة إلى المعرفة كقوة تحررية.

نحو نموذج توطيني للمنهاج الفلسطيني

لتحقيق التوطين الحقيقي، لا بد من تبني نموذج تربوي يقوم على الانطلاق من الخصوصية الفلسطينية بكل أبعادها التاريخية والجغرافية والثقافية، مع الربط العضوي بين المعرفة والمشكلات الحياتية الواقعية للشعب الفلسطيني ، ما يعني اعتماد منهجية البحث والتقصي كأساس للتعلم بدلاً من التلقي السلبي ، إضافة إلى توظيف التراث الثقافي الفلسطيني كمصدر للمعرفة وليس كمجرد تراث فولكلوري ، وبناء شراكات حقيقية بين المدرسة والمجتمع في تطوير المناهج وتنفيذها.

من التوطين إلى التمكين

ليس التوطين مجرد عملية تقنية تربوية، بل هو مشروع حضاري يستعيد فيه الشعب الفلسطيني قدرته على إنتاج المعرفة من داخله، مستخدماً أدواته ومفاهيمه ورؤيته. إنه الانتقال من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الإنتاج، ومن التبعية إلى الاستقلال، ومن التلقي إلى الإبداع. يمكنني القول بأن التوطين هو الوجه الحقيقي للوطنية، وهو المشروع التربوي الذي يحول التعليم من أداة للتكييف مع الواقع إلى أداة لتغييره، ومن أداة لطمس الهوية إلى أداة لتأكيدها. إنه المشروع الذي يضمن لأبناء فلسطين أن يكونوا أصحاب معرفة لا مجرد مستهلكين لها، وفاعلين في صنع تاريخهم لا مجرد متفرجين عليه.

  • – نسيم قبها – باحث في الشأن التربوي – الإئتلاف التربوي الفلسطيني

شاهد أيضاً

هان تشنغ نائب الرئيس الصيني

نائب الرئيس الصيني يزور السعودية والكويت ويحضر القمة العالمية للتنمية الاجتماعية في قطر

شفا – أعلن متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية اليوم الاثنين أن هان تشنغ نائب الرئيس …