12:30 صباحًا / 21 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

حين يضيق اللسان وتتّسع الهاوية: قراءة في نصّ عبد الحميد شكيل “تركُونا على حافة العاصفة” ، بقلم : رانية مرجية

حين يضيق اللسان وتتّسع الهاوية: قراءة في نصّ عبد الحميد شكيل “تركُونا على حافة العاصفة” ، بقلم : رانية مرجية

حين يضيق اللسان وتتّسع الهاوية: قراءة في نصّ عبد الحميد شكيل “تركُونا على حافة العاصفة” ، بقلم : رانية مرجية


“تركُونا على حافة العاصفة.. تركونا على جسرٍ متهاوٍ.. لا ممر إلى حقل المعنى.. لا نهر في صحراء الوقت، ضاقت اللغة، وانتهبتنا الظنون.”


— عبد الحميد شيكل

  1. التأسيس الوجودي: الحافة كقدرٍ إنساني

يبدأ عبد الحميد شيكل نصّه من تخوم المأساة، لا من داخلها.
فهو لا يقول “في العاصفة” بل “على حافتها”، وكأنّه يضع الإنسان في منطقةٍ وسطى بين الحياة والعدم، بين الوقوع والنجاة.
هذه الحافة ليست مجرّد موقع، بل حالة روحية يعيشها كل من تزلزلت أرض المعنى تحت قدميه.

“تركُونا” تكرار يحمل أنينًا داخليًا، ويشي بأنّ الفعل لم يكن اختيارًا، بل خذلانًا وجوديًا.
من ترك؟ ولماذا؟
إنه الآخر، الجماعة، الزمان، وربما اللغة ذاتها التي خذلت الإنسان في لحظة احتياجه إليها.

  1. الجسر المتهاوي: استعارة الانهيار الكوني

يأتي الجسر في شعر عبد الحميد شيكل كرمزٍ لوسيطٍ كان يفترض أن يربط بين الأشياء، فإذا به ينهار.
إنه رمز للصلة المقطوعة بين الإنسان والكون، بين الذات والعالم، بين الكلمة والحقيقة.

فالجسر المتهاوي ليس ماديًّا، بل رمزيٌّ فلسفي:
انهار المعنى كما تنهار الحضارات، وتفكّك الرابط الذي كان يجمع الإنسان بذاته.
شيكل هنا لا يصف سقوطًا هندسيًا بل سقوطًا في اللاجدوى، سقوطًا في منطقة اللايقين التي يتهاوى فيها كل ما ظنّ الإنسان أنه ثابت.

  1. لا ممرّ إلى حقل المعنى: انغلاق الأفق

هنا نصل إلى قلب النصّ.
إنها جملة الوجع الكوني، حين يُدرك الشاعر أن الطريق إلى المعنى مسدود، وأن كل الممرات تقود إلى الفراغ.

“حقل المعنى” عبارة شاعرية كثيفة، تستدعي صورة الحقل الذي تُنبت فيه اللغة سنابلها، غير أن هذا الحقل الآن أقفر، مغلق، بلا ممرّ.
كأنّ الشاعر يعلن نفي الإنسان من جنّة الوعي، من قدرته على الفهم والتفسير.

لقد تحوّل الشعر عند عبد الحميد شيكل إلى صرخة ضد الصمت، وصار المعنى يُطلّ من بعيد كطيفٍ لا يمكن الإمساك به.
إنها لحظة انقطاع لغويّ وميتافيزيقيّ في آنٍ واحد.

  1. لا نهر في صحراء الوقت: جفاف الزمن

في هذه الصورة، يختزل شيكل فلسفته في الوجود.
فالزمن عنده لم يعد حاملًا للمعنى، بل صار صحراء قاحلة بلا نهرٍ يُنعشها.

الزمن الذي يفترض أن يكون نهرًا للحياة أصبح جامدًا، غبارًا يدور في فراغ.
النهر رمز الذاكرة والحركة، والصحراء رمز الجفاف والنسيان.
وحين يضع الشاعر النفي أمامهما، فهو يقول: لقد مات الزمن فينا، ولم نعد نتحرك إلا في دائرة العدم.

الوقت هنا ليس ساعاتٍ تمضي، بل محنة وعيٍّ مأزومٍ بزمنٍ بلا حياة.
صورة تنبض بالرمزية: لا نهر يجري، ولا وقت يُثمر، ولا معنى يُولَد.

  1. ضاقت اللغة، وانتهبتنا الظنون: النهاية الوجودية

يصل النص هنا إلى ذروته، إلى لحظة انهيار العالم اللغوي والفكري معًا.
فاللغة تضيق، لأن التجربة أوسع من قدرتها على التعبير.
والظنون تنهب، لأنها وُلدت من غياب اليقين.

هذا السطر هو بمثابة بيان فلسفي شعري يلخّص مأساة الإنسان في عصر الغموض.
اللغة، التي كانت أداة الخلاص، أصبحت قيدًا، والظنّ أصبح بديلًا عن الحقيقة.
وهكذا، يغدو الإنسان في نظر شيكل كائنًا تائهًا في متاهة الكلام، يصرخ بالكلمات لكنه لا يسمع صداها.

إنها نهاية مزدوجة:
نهاية اللغة كوسيلة للمعرفة، ونهاية الإنسان ككائنٍ قادرٍ على الثقة بما يقول أو يسمع.

  1. رمزية النص وبُعده الفلسفي

في هذا النص القصير، يلتقي الشعر بالفلسفة والميتافيزيقا.
عبد الحميد شيكل لا يكتب عن حادثة شخصية، بل عن أزمة الإنسان المعاصر الذي فقد صلته بالأبدية.
نصّه يقف على تخوم الفكر الوجودي والصوفي معًا:
• من جهة، هو وجوديّ لأنّه يعبّر عن قلق الإنسان الذي لا يجد معنى.
• ومن جهة أخرى، هو صوفيّ لأنّه يلمّح إلى البحث عن معنى أعلى غاب في ضباب اللغة.

“ضاقت اللغة” يمكن قراءتها كصرخة من روحٍ تبحث عن الاسم الإلهي المفقود، عن تلك الكلمة الأولى التي خلقت العالم، لكنها لم تعد تُسمَع.
فالقصيدة عند شيكل هي بحث عن الله في اللغة، وعن الإنسان في الكلمة.

  1. البنية الموسيقية والاقتصاد اللغوي

رغم قصر النص، فإن إيقاعه مشحون بالتكرار الدلالي والوقفات المتقطّعة.
كل جملة فيه تنهض على الفعل المضارع أو الجملة الاسمية الناقصة، لتوحي بحالة الاستمرار المعلّق — لا نهاية ولا بداية.
اللغة في النص تنزف، لكنها نزيف محسوب، كأن الشاعر يقيس الوجع بمسطرة الجمال.

الاقتصاد اللغوي هنا لا يعني فقرًا بل تركيزًا روحيًا؛
فكل مفردة تحيل إلى حقلٍ من المعاني، وكل صورة تفتح بابًا إلى تأويلٍ آخر.
إنه نصّ صغيرٌ في حجمه، واسعٌ كصحراء المعنى في امتداده.

  1. الخاتمة: الشعر كفعل نجاة

في النهاية، يبدو أن عبد الحميد شيكل يكتب لا ليعبّر، بل ليقاوم الصمت.
فحين ينهار كل شيء — الجسر، المعنى، الزمن، اللغة — لا يبقى سوى الشعر كملاذٍ أخير.
الشعر هنا ليس ترفًا، بل شكل من أشكال البقاء، محاولة لاستعادة الضوء من بين أنقاض الكلام.

النص يذكّرنا بأن الإنسان، حتى وهو على حافة العاصفة، يستطيع أن ينطق.
وأن اللغة، مهما ضاقت، تظلّ تحمل في عمقها نداءً سرّيًا نحو المعنى، نحو الله، نحو الإنسان.

خلاصة

نصّ عبد الحميد شيكل هو قصيدة في فلسفة الفقد؛
يكتب فيها عن الإنسان الذي خسر الطريق إلى ذاته، وعن اللغة التي لم تعد تجيب، وعن زمنٍ لم يعد يحمل وعودًا.
إنه وجعٌ مكتوب بنقاءٍ جماليٍّ نادر، يختصر مأساة العصر العربي والإنساني معًا:
العطش إلى المعنى في صحراء المعنى.

شاهد أيضاً

اسعار الذهب اليوم

اسعار الذهب اليوم

شفا – جاءت اسعار الذهب اليوم الأثنين 20 أكتوبر كالتالي : سعر أونصة الذهب عالمياً …