3:13 مساءً / 20 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

حين يسقط الجدار في الوعي قبل أن يسقط في الأرض ، بقلم : المهندس غسان جابر

حين يسقط الجدار في الوعي قبل أن يسقط في الأرض ، بقلم : المهندس غسان جابر

هناك لحظات في التاريخ لا تُقاس بعدد القتلى ولا بحجم الدمار، بل بعمق الزلزال الذي تُحدثه في وعي الأمم.


وما يجري اليوم في فلسطين ليس مجرد حربٍ جديدة ولا فصلٍ آخر من المأساة المستمرة، بل زلزالٌ مزدوج: اهتزاز في الوعي الإسرائيلي من جهة، وارتباك في الوعي الفلسطيني من جهة أخرى.


زلزالٌ كشف أن الأمن لا يُبنى بالقوة، وأن الاحتلال مهما طال لا يورث إلا الخوف، وأن الانقسام الفلسطيني صار أخطر من العدو ذاته.

“لقد صار الانقسام الفلسطيني أخطر من الاحتلال نفسه، لأنه يزرع فينا الهزيمة كل يوم، ويحوّل الوطن إلى جزرٍ متباعدةٍ لا بحرَ بينها.”

منذ النكبة، كانت المأساة الفلسطينية ليست فقط ضياع الأرض، بل ضياع البوصلة.


فحين أُخرج الفلسطيني من أرضه عام 1948، لم يُقتلع من تاريخه فقط، بل من مركز القرار العربي أيضًا.


وحين انطلقت الثورة الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي، بدا وكأن التاريخ يستعيد أنفاسه.


لكن هذا التاريخ ذاته، في لحظة الانقسام، انقلب إلى مرآة تكشف عوراتنا: فصائل ترهلت، وقيادات شاخت، ومؤسسات فقدت روحها.

اليوم، بين غزة المحاصرة والضفة المراقَبة، يعيش الفلسطيني فصلين من المعاناة في كتابٍ واحد.


في غزة، الموتُ له عنوانٌ يومي.


بيوتٌ تُهدم فوق رؤوس أهلها، ومستشفياتٌ بلا دواء، وأطفالٌ يكتبون أسماءهم على أذرعهم خوفًا من ألا يُعرفوا بعد القصف.


أما في الضفة، فالموتُ صامتٌ وناعم.


هجرةٌ بطيئة، واقتلاعٌ هادئ، ومستوطناتٌ تتمدد في صمت، كما يتمدد الليل على مدينةٍ غافلة.

“في غزة يُقتل الفلسطيني بصاروخٍ، وفي الضفة يُقتل بحلم الهجرة. والنتيجة واحدة: وطنٌ يُفرَّغ من أهله، وعدوٌّ يملأ فراغهم.”

لكن في الجانب الآخر من الجدار، هناك تصدّعٌ لا يقل خطورة.


فالمجتمع الإسرائيلي، الذي عاش على أسطورة “الأمن الأبدي”، بدأ يدرك أن السلاح لا يصنع سلامًا، وأن جيشًا يسيطر على ملايين البشر لا يستطيع أن يضمن مستقبلًا مستقرًا لأطفاله.


لقد كتب بعض المفكرين الإسرائيليين بوضوح: “إن استمرار الاحتلال يجعلنا أسرى خوفنا، ويحوّلنا إلى ما كنا نخاف أن نصبحه.”

إنها لحظة تشبه ما حدث بعد حرب أكتوبر 1973، حين اكتشف الإسرائيليون أن جيشهم ليس أسطورة وأن أمنهم هشّ.
لكن الفرق اليوم أن الصدع هذه المرة ليس في الجيش، بل في الضمير.


ولأنهم يتعلمون من الهزائم، فإن إسرائيل — رغم تشققاتها الداخلية — ستبحث عن خلاصها في الوحدة.
أما نحن، فبينما تهتز الأرض من تحتنا، ما زلنا نبحث عن خلاصنا في بياناتٍ لا تُقرأ، ومؤتمراتٍ لا تُثمر.

“الاحتلال ليس أقوى منّا، لكنه أقوى من فرقتنا.”

لقد بات واضحًا أن الاحتلال يستثمر في الانقسام أكثر مما يستثمر في دباباته.


فكل انقسامٍ فلسطيني هو مستوطنةٌ جديدة تُقام دون جرافة.
وكل خلافٍ على المناصب هو مساحةٌ تُضمّ من الأرض دون ضجيج.


وحين تنشغل الفصائل بالتحاصص، تنشغل إسرائيل بضمّ الضفة بهدوءٍ مدروس، وبتهويد القدس بخطواتٍ محسوبة، وبصناعة هجرةٍ فلسطينية “ناعمة” تُفرغ الأرض من أصحابها دون طلقةٍ واحدة.

منذ سنوات، ونحن نرى كيف تحوّل الانقسام من حدثٍ طارئ إلى نظامٍ دائم، وكيف صار الفلسطيني الذي يقاتل في غزة لا يشبه الفلسطيني الذي يعمل في الضفة، لا لأنهما مختلفان، بل لأن السياسة جعلت بينهما جدارًا من الشك والخذلان.
لكن الشعوب، كما علمنا التاريخ، لا تُهزم بالاحتلال، بل تُهزم حين تصدّق أنه قدرها.


ولا تنهض الأمم بالبيانات، بل حين تُدرك أن النهوض قرارٌ لا هبة.

“لقد آن لنا أن نفهم أن العدو لا يخاف من صواريخنا بقدر ما يخاف من وحدتنا، ولا يخشى كلماتنا بقدر ما يخشى أن نصبح صفًا واحدًا.”

إن التحول الذي بدأ يطل من داخل الوعي الإسرائيلي يجب أن يكون إنذارًا لنا، لا فرصةً نضيعها.
فحين يبدأ العدو في الشكّ بجدوى احتلاله، علينا نحن أن نوقن بجدوى وحدتنا.


وحين يتساءل الإسرائيلي عن معنى الأمن الحقيقي، يجب أن نعيد نحن تعريف معنى المقاومة الحقيقية:
أن تقاوم ليس فقط بسلاحك، بل بوحدتك، بعلمك، بصمودك، بإيمانك أن فلسطين ليست مجرد قضية بل هوية.

لقد آن الأوان لمشروع وطني جديد،


مشروع يُعيد ترتيب أولوياتنا من الصفر:


من الوطن قبل الفصيل، ومن الإنسان قبل الشعارات، ومن المستقبل قبل المناصب.
فالشعب الذي استطاع أن ينجو من سبعة عقودٍ من القهر قادرٌ أن ينهض من تحت الركام، بشرط أن يتصالح مع نفسه أولًا، وأن يعيد الثقة بين أبنائه قبل أن يطالب العالم بالاعتراف بحقه.

“الاعتراف بفلسطين لن يأتي من الخارج ما لم نعد نحن إلى أنفسنا أولًا، والدولة التي نحلم بها لن تولد في المؤتمرات، بل من رحم الصمود والإرادة.”

في نهاية المطاف،
كل جدارٍ يسقط في الوعي لا بد أن يسقط في الأرض.
والجدار الذي بنته إسرائيل حول نفسها بدأ يتصدع من الداخل،
لكن علينا أن نُسقط الجدار الذي بنيناه نحن بين بعضنا البعض.
فالتاريخ لا يرحم الأمم التي تنام على جراحها،
ولا ينتظر الشعوب التي تتفاوض مع ضعفها.
ولن يكون لنا وطنٌ حرّ حتى نوقن أن الحرية تبدأ من عقولنا قبل أن تبدأ من حدودنا.

“لا يمكن لدولةٍ أن تبقى قوية وهي تجثم على صدر شعبٍ آخر، ولا يمكن لإسرائيل أن تعيش بأمنٍ حقيقي إلا حين تعترف — لا قهرًا بل اقتناعًا — بأن فلسطين يجب أن تقوم.”

  • – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.

شاهد أيضاً

الشرطة تطلق فعاليات الحملة الشرطية للوقاية من الجريمة برعاية دولة رئيس الوزراء

الشرطة تطلق فعاليات الحملة الشرطية للوقاية من الجريمة برعاية دولة رئيس الوزراء

شفا – أطلقت الشرطة اليوم الإثنين، فعاليات الحملة الشرطية للوقاية من الجريمة، في حفل كبير …