2:44 مساءً / 4 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

غزة والصين …، الإنسان حين يصبح مشروعاً لإعادة البناء ، بقلم : المهندس غسان جابر

غزة والصين… الإنسان حين يصبح مشروعاً لإعادة البناء ، بقلم : المهندس غسان جابر

لم تكن الصين في منتصف القرن التاسع عشر سوى أمة مثخنة بالجراح، تتقاذفها رياح الاستعمار وتنهشها الحروب الداخلية والخارجية. وحين سقطت أمام مدافع الأفيون البريطانية، كان السؤال الصيني العميق الذي ظل يدوّي لعقود: كيف يمكن لأمةٍ أن تنهض من تحت الركام؟

ذلك السؤال الذي طارد مفكري الصين من “سون يات صن” إلى “ماو تسي تونغ”، هو ذاته السؤال الذي يواجه اليوم الإنسان الفلسطيني في غزة — ليس بوصفه سؤال إعمار حجارة، بل سؤال بناء الإنسان الذي أُنهك بالحرب والحصار، وفقدَ أمانه النفسي والاقتصادي والاجتماعي.

الصين: تجربة الإنسان قبل الحجر

حين أُعلنت الجمهورية الشعبية عام 1949، كانت الصين مهدّمة الروح قبل أن تكون مهدّمة البنى. لكن القيادة الجديدة قرأت معادلة النهوض من زاوية مختلفة: لا يمكن للأمة أن تبني مصانعها قبل أن تعيد بناء إنسانها.

فانطلقت بخطط خمسية متتابعة وضعت الإنسان في مركز المعادلة:


التعليم الشامل، التدريب المهني، مكافحة الأمية، وتحويل الفلاح البسيط إلى مشارك في التنمية. ثم جاء الانفتاح الاقتصادي في عهد “دينغ شياو بينغ” ليُدخل البلاد إلى عصر “العقل العملي”، دون أن يفقدها صلتها بجذورها الحضارية.

كانت الصين تبني اقتصادًا، لكنها في العمق كانت تبني عقلاً جديداً يعرف كيف يحلم، ويعرف كيف يحقق حلمه.

من حروب الأفيون إلى حصار غزة قد يبدو أن المسافة بين بكين وغزة بعيدة، لكن التاريخ لا يعرف البعد الجغرافي بقدر ما يعرف التشابه الإنساني.


فما جرى في الصين في القرن التاسع عشر — من إذلال واستعمار وتقسيم — هو في جوهره ما تعيشه غزة منذ النكبة. إنها مأساة الإنسان حين يُحاصر في الجغرافيا والتاريخ معاً.

الصين واجهت استعماراً تقليدياً، فاستطاعت طرده وبناء دولة مستقلة ذات سيادة. أما غزة، فهي تواجه استعماراً حديثاً بأدوات قديمة، حيث يُحاصَر الهواء والماء والمعرفة في آن واحد. ولهذا، فإن معركة إعادة البناء هنا أكثر تعقيداً وأشد عمقاً.

دروس من الشرق البعيد

أول الدروس من التجربة الصينية هو أن التنمية ليست مشروعاً هندسياً بل مشروع وعي.


حين رفعت الصين شعار “التعليم أولاً”، لم تكن تبني مدارس فحسب، بل كانت تؤسس لنهضة فكرية قادرة على إنتاج العمل والإبداع.

وفي غزة، حيث تتقاطع المعاناة مع الإصرار، يمكن أن تبدأ النهضة من ذات النقطة: التعليم المهني والتقني، التدريب الشبابي، وربط المعرفة بالإنتاج.


إنها ليست مجرد خطة، بل تحويل الكارثة إلى مدرسةٍ للمستقبل.

والدرس الثاني هو دعم المشاريع الصغيرة.


من مدن مثل شنتشن خرجت الصين إلى العالم، من ورش صغيرة إلى مصانع كبرى. وفي غزة، حيث المساحة محدودة لكن الطموح واسع، يمكن لمشاريع الحرف، التكنولوجيا، والطاقة المتجددة أن تكون نواة لاقتصاد مقاوم قائم على الإبداع المحلي.

أما الدرس الثالث، فهو في الفكر الاستراتيجي الطويل المدى.


لم تكن خطط الصين الخمسية أوراقاً تُكتب في الوزارات، بل كانت رؤى وطنية تنسج المستقبل بخيوط الواقع. وغزة اليوم بحاجة إلى خطة مماثلة — خمسية أو عشرية — تنطلق من واقعها، لكنها لا تتقيد به.

الإنسان الفلسطيني… قلب المعادلة

إن التجربة الصينية علمتنا أن الطاقات الكامنة في الإنسان تفوق أي دمار مادي. لكن في غزة، قبل التعليم والعمل، هناك حاجة إلى إعادة بناء النفس الفلسطينية.

فالحصار الطويل خلّف ندوباً عميقة في الروح، ولا يمكن لأي إعمار أن ينجح ما لم يُرفق ببرامج دعم نفسي واجتماعي تعيد للإنسان ثقته بالحياة والمستقبل.


حين يتعافى الإنسان، تصبح إعادة بناء الحجر تفصيلاً في رحلة الشفاء الكبرى.

شراكة مع الصين… الطريق الممكن

الصين اليوم ليست فقط تجربة ماضية، بل شريك محتمل في المستقبل.


يمكن لغزة أن تبني مع بكين جسور تعاون في التعليم والتدريب والبنية التحتية، وأن تُنشئ مناطق صناعية صغيرة على النموذج الصيني، تعتمد على الطاقة الشمسية، وتخلق فرص عمل حقيقية.

فالصين التي بنت “الحزام والطريق” يمكن أن تفتح لغزة طريقاً إلى العالم، ليس بالمساعدات، بل بشراكة تنموية تقوم على الكفاءة والاحترام المتبادل.

نقول: لقد علّمتنا الصين أن النهوض يبدأ من فكرة، وأن الفكرة لا تولد إلا من رحم المعاناة.


وغزة اليوم تقف على ذات العتبة التي وقفت عليها الصين قبل قرن: بين اليأس والبعث، بين الدمار والإبداع.

ولعل الفرق الوحيد أن الإنسان الفلسطيني قد جُبل على الصمود، بينما الإنسان الصيني تعلمه بالتجربة.


وإذا امتلك الفلسطينيون إرادة التخطيط كما امتلكوا إرادة البقاء، فسيأتي اليوم الذي تُروى فيه قصة غزة في كتب الأمم كما تُروى اليوم قصة الصين: كيف خرجت من بين الأنقاض لتبني الإنسان قبل العمران.

  • – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.

شاهد أيضاً

محافظ نابلس غسان دغلس يشارك في تشييع جثمان شهيد الواجب الوطني الرائد لؤي جعفر

محافظ نابلس غسان دغلس يشارك في تشييع جثمان شهيد الواجب الوطني الرائد لؤي جعفر

شفا – شارك محافظ نابلس، غسان دغلس، اليوم السبت، في تشييع جثمان شهيد الواجب الوطني، …