
النزوح القسري .. السلاح الأخطر في حرب الإبادة على غزة ، بقلم : محمد التاج
منذ بداية الحرب على غزة، دأبت قوات الإحتلال على إصدار بيانات عسكرية تطالب المدنيين الفلسطينيين بالنزوح من بيوتهم نحو أماكن أخرى “أكثر أمانا”، في ظاهرها خطوة احترازية، وفي حقيقتها سياسة تهجير قسري مكشوفة. هذه الأوامر التي تتكرر مع كل جولة قصف، لا تحمل أي معنى إنساني أو عسكري سوى تفريغ الأرض من سكانها وتحويلهم إلى لاجئين جدد بلا أفق ولا مأوى.
حين يقال للناس “غادروا منازلكم”، فإن السؤال البديهي هو: إلى أين؟ في غزة، التي لا تتجاوز مساحتها 365 كم²، لا توجد مناطق آمنة أصلا. الشمال يقصف، الوسط يدمر، والجنوب لم يسلم من صواريخ الطائرات والمدافع. حتى المستشفيات والمدارس التابعة للأونروا، التي يفترض أنها أماكن محمية دوليا، تعرضت للقصف، فتحولت من ملجأ إلى فخ موت.
أما خيار عبور معبر رفح نحو مصر، فقد ظل مغلقا معظم الوقت، ولا يفتح إلا أمام أعداد محدودة من حاملي جوازات سفر أجنبية أو من يدفعون مبالغ طائلة عبر الوسطاء. هذا يعني أن ملايين الفلسطينيين لا يملكون سوى خيار واحد: النزوح الداخلي من بيت إلى خيمة، ومن خيمة إلى العراء، ومن حي مهدد بالقصف إلى حي آخر لا يقل خطورة.
إسرائيل تحاول أن تقدم أوامر النزوح على أنها “تحذيرات مسبقة” تبرئها أمام القانون الدولي من تهمة استهداف المدنيين. لكن جوهر الأمر مختلف: كيف يمكن أن يكون التحذير إنسانيا إذا لم يكن هناك مكان آمن أصلا؟ إن القصف يلاحق النازحين حيثما ذهبوا، مما يحول النزوح إلى مجرد وسيلة لإدارة القتل، وليس لتقليصه.
هنا يتحول النزوح إلى أداة حرب نفسية، تهدف إلى إنهاك المجتمع الفلسطيني، وزرع اليأس في قلوب الناس، وإظهارهم ككتلة بشرية منهارة تبحث عن مأوى وفتات خبز، بدل أن يكونوا أصحاب قضية عادلة يقاومون من أجلها.
ما تسميه إسرائيل “نزوحا مؤقتا” يحمل في جوهره نوايا ديموغرافية بعيدة المدى. منذ نكبة 1948 والنكسة 1967، كان التهجير الجماعي سلاحا لإعادة رسم الخريطة السكانية بما يخدم المشروع الاستيطاني. اليوم، في غزة، تحاول إسرائيل أن تعيد إنتاج السيناريو نفسه: دفع الفلسطينيين إلى الجنوب، ثم إلى الحدود، ثم إلى الخارج.
التقارير العبرية والغربية التي تحدثت عن خطط “ترانسفير” إلى سيناء أو إعادة توطين الغزيين في دول أخرى، ليست مجرد تسريبات صحفية، بل انعكاس لرغبة متجذرة في المؤسسة السياسية الإسرائيلية: التخلص من عبئ غزة وسكانها البالغ عددهم أكثر من مليوني إنسان.
وفق القانون الدولي الإنساني، فإن أي عملية نزوح قسري تحت الاحتلال تعد جريمة حرب. المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة تحظر النقل الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة، بغض النظر عن الدوافع. إسرائيل، إذن، لا تمارس مجرد “إجراء عسكري”، بل ترتكب جريمة ممنهجة تستهدف اقتلاع شعب كامل من أرضه.
في الوقت نفسه، يعكس النزوح المليوني مأساة إنسانية غير مسبوقة: ملايين الأشخاص بلا مأوى، نصفهم من الأطفال، يفتقدون الغذاء والماء والدواء، بينما العالم يكتفي ببيانات قلق لا تردع المحتل ولا توقف الكارثة.
إن أوامر النزوح في غزة ليست “تحذيرات إنسانية”، بل سياسة تهجير قسري تهدف إلى إفراغ الأرض وإعادة إنتاج النكبة. الفلسطينيون الذين يقال لهم “غادروا بيوتكم” يعرفون جيدا أن البديل ليس الأمان، بل الخيمة، الحصار، والتهجير الدائم.
أمام هذا الواقع، يصبح التمسك بالبقاء على الأرض – ولو في خيمة فوق الركام – فعل مقاومة بحد ذاته. كما أن مسؤولية المجتمع الدولي لم تعد تقتصر على المطالبة بوقف إطلاق النار، بل تتجاوز ذلك إلى حماية الفلسطينيين من مخطط اقتلاع جديد، لأن الصمت اليوم يعني شرعنة جريمة مستمرة منذ اكثر من 77 عاما.