3:01 مساءً / 17 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

النزوح القسري في غزة … ، إنهاك نفسي لا يُرى ، بقلم : هنادي طلال الدنف

النزوح القسري في غزة… إنهاك نفسي لا يُرى ، بقلم : هنادي طلال الدنف


حين يُجبر الإنسان على ترك بيته، لا يخرج وهو يحمل حقيبته فقط؛ بل يترك خلفه جزءًا من قلبه، وجزءًا من ذاكرته. الرحيل القسري ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل تجربة اقتلاع قاسية تُعيد تشكيل الروح وتتركها مثقلة بالأسئلة والوجع. في غزة، لم يكن النزوح تجربة عابرة، بل بات واقعًا متكررًا ينهك الجسد ويفتك بالنفس.

البيت بالنسبة للإنسان ليس جدرانًا فقط، بل هو مساحة أمان، ومخزن للذكريات، ومكان للانتماء. وحين يُترك قسرًا، يشعر المرء كأنه فقد جذوره، وكأن الأرض التي حملته لم تعد له. ومع كل عملية نزوح جديدة، يتضاعف هذا الشعور بالفقد ليصبح أشبه بجروح متراكمة لا تلتئم. وحتى بعد الوصول إلى مكان جديد، لا يجد الناس الأمان الذي يبحثون عنه؛ ينامون على أصوات الانفجارات أو بين خيام لا تقي من البرد أو الحر. يعيشون كل يوم بشعور أن المكان الحالي ليس إلا محطة مؤقتة، وأن الرحيل قد يُطلب منهم مجددًا في أي لحظة. هذا القلق المستمر يحرمهم من الراحة، ويجعل نومهم متقطعًا وأيامهم مثقلة بالخوف.

لكن وجع النزوح لا يقتصر على فكرة ترك البيت فقط. صحيح أن البيوت تُدمَّر، لكن الأصعب هو أن يُطلب من الناس الرحيل في ظروف شبه مستحيلة. فالمواصلات تكاد تكون معدومة، وإن وُجدت تكون أسعارها فلكية، تجعل كثيرين عاجزين عن التحرك. وحتى الوصول إلى الجنوب، الذي يُفترض أنه الملاذ، لم يعد حلًا، لأنه مكتظ بالكامل، والناس هناك بالكاد يجدون مكانًا ينامون فيه. هذه الحيرة تضيف عبئًا آخر إلى ثقل النزوح، إذ يجد الإنسان نفسه أمام خيارين كلاهما مؤلم: البقاء في خطر أو الارتحال إلى مجهول مزدحم لا يتسع لأحد.

الطريق مغلق، والوجهة غير واضحة. العائلات تسير بلا خريطة، لا تدري هل ستصل إلى مكان آمن أم ستعلق في المنتصف. هذا الغموض يزرع حالة من الضياع النفسي، فالبشر بطبيعتهم يحتاجون إلى شعور بالسيطرة على مسار حياتهم. وحين يُسلب منهم هذا الحق، يتحولون إلى عالقين بين الخوف واللايقين.

أما الإنهاك النفسي (Psychological Exhaustion)، فهو الوجع الذي لا يُرى. النزوح المتكرر لا يترك أثره فقط على الطريق أو في البيوت الفارغة، بل قبل كل شيء يترك ندبة عميقة في الروح. الناس الذين اضطروا إلى ترك بيوتهم مرة ومرتين وأكثر يعيشون حالة استنزاف داخلي، كأنهم يسيرون بخطوات ثقيلة وما لهم طاقة يكملوا. الإنهاك النفسي ليس مجرد إرهاق يزول مع النوم أو الراحة؛ بل حالة مستمرة من التعب الداخلي تجعل الإنسان يشعر وكأنه فقد السيطرة على نفسه وعلى يومه. الأفكار مشوشة، التركيز صعب، والذاكرة قصيرة المدى تضعف. حتى أبسط القرارات اليومية—مثل أين ينامون أو كيف يطمئنون أولادهم—تصبح عبئًا إضافيًا.

الأصعب أن هذا الإنهاك ينعكس على العائلة كلها. الأهل الذين لا يستطيعون السيطرة على قلقهم، يصبحون عاجزين عن منح أطفالهم الإحساس بالأمان. وهنا يلتقط الأطفال هذا الخوف من عيون الكبار، فيعيشونه مضاعفًا. عيونهم الصغيرة ترى كل شيء، تحفظ تفاصيل النزوح، وتلتقط ارتجاف أصوات أمهاتهم وآبائهم. حين يُجبر الطفل على ترك سريره، حارته، ألعابه، وأصدقاءه، فهو لا يفقد أشياءً مادية فقط، بل يخسر إحساسه بالثبات. ومع تكرار النزوح، تتحول البراءة إلى قلق مزمن يظهر على شكل كوابيس، تبول لا إرادي، أو صمت طويل يعجزون عن كسره.

النزوح لا يفرق العائلات عن بيوتها فقط، بل يقطع أوصال المجتمع نفسه. الجيران الذين كانوا يتشاركون الحياة اليومية، يجدون أنفسهم متفرقين في أماكن متباعدة. هذه القطيعة تضعف الدعم الاجتماعي الذي طالما كان مصدر قوة في الأزمات. ومع غياب هذا الحاضن الاجتماعي، يشعر الأفراد بمزيد من الوحدة والعزلة، وهو ما يضاعف من معاناتهم النفسية.

وأمام هذا الثقل النفسي، يبرز سؤال مهم: من يعتني بأرواح الناس؟ كما يحتاج الإنسان إلى مأوى وغذاء، يحتاج أيضًا إلى كلمة طمأنة، مساحة آمنة للحديث، أو مجرد شعور أن أحدًا يسمعه. الدعم النفسي والاجتماعي ليس رفاهية، بل ضرورة للبقاء، لأنه يمنح الناس القدرة على الاستمرار في مواجهة يوميات النزوح القاسية.

الرحيل القسري ليس رحلة مؤقتة ولا حدثًا عابرًا، بل جرح مفتوح يترك أثره العميق على الروح قبل الجسد. في غزة، يعيش الناس في دائرة متكررة من الرحيل والانتظار واللايقين، ما يجعل الإنهاك النفسي واقعًا يوميًا لا يفارقهم. التعب صار جزءًا من تفاصيلهم اليومية، وأجسادهم وأرواحهم أنهكتها الطرق المغلقة والبيوت المفقودة والذكريات المبعثرة. الاعتراف بمعاناتهم النفسية هو الخطوة الأولى لفهم حجم ما يواجهونه، والوقوف إلى جانبهم ليس واجبًا إنسانيًا فقط، بل ضرورة تُعيد بعض الطمأنينة إلى أرواح لم تعد تحتمل المزيد من النزوح.

النزوح في غزة ليس فقط حكاية بيوت هُدمت، بل حكاية أرواح أُنهكت وما زالت تبحث عن ملاذ آمن.

شاهد أيضاً

سفير جمهورية جنوب أفريقيا لدى دولة فلسطين، شون بينيفيلدت

فارسين شاهين تبحث مع سفير جنوب أفريقيا ووزيرة خارجية فنلندا التطورات والمستجدات الراهنة

شفا – بحثت وزيرة الخارجية والمغتربين، فارسين شاهين، اليوم الأربعاء، مع سفير جمهورية جنوب أفريقيا …