
التعليم الصريح والفعّال : ديالكتيك البناء المعرفي الثنائي في الفلسفة التربوية ، بقلم : نسيم قبها
في حقل البيداغوجيا المعاصرة، تشغل ثنائية “التعليم الفعال” و”التعليم الصريح” حيزًا نقديًا مركزياً، ليس بوصفهما نمطين متعارضين، بل بوصفهما طرفي متصل ديناميكي يعكس رؤى فلسفية متباينة حول طبيعة المعرفة، ودور المُعلِّم، وآلية اكتساب المتعلِّم للمعرفة. فالفارق بينهما يتجاوز مجرد تقنيات صفية ليغوص في جذور ابستمولوجية حول مصدر المعرفة وكيفية بنائها.
يستند التعليم الصريح، الذي يُطلق عليه أيضاً التعلُّم المباشر، إلى تقاليد فلسفية عقلانية وواقعية. فهو يفترض وجود جسم ثابت ومنظم من المعرفة يمكن نقله بشكل منهجي من المعلم، بوصفه حامل المعرفة والخبير، إلى عقل المتعلّم، الذي يُفترض أنه “لوح أبيض” يستقبل هذه المعرفة. هنا، تكون العملية تربوية انتقالية بامتياز، حيث يقوم المعلّم بتفكيك المعرفة إلى مكوناتها الجزئية (تحليلية) وعرضها بشكل صريح، متسلسل، وواضح، يتبع نموذج “إظهار النموذج – الممارسة الموجهة – الممارسة المستقلة”. تُعد هذه الطريقة فعالة جداً في نقل المعرفة الواقعية الأساسية ، المهارات الإجرائية ، والمفاهيم المحددة بدقة، حيث تقلل من عبء المعرفة الإدراكي على المتعلّم وتضمن تغطية المحتوى بشكل كفء. فلسفياً، يمكن تتبع جذوره إلى نموذج التدريس السلوكي الذي يركز على المخرجات القابلة للقياس والملاحظة.
في المقابل، ينبثق التعليم الفعال من اختلاف جذري ، وهو البنائية ، التي تجذرت في أعمال ( بياجيه وفيغوتسكي ودوي) . هذه الفلسفة لا ترى المعرفة ككيان خارجي جاهز للنقل، بل كبنية يستحدثها المتعلّم بنشاط من خلال التفاعل مع المحيط والخبرات والتجارب. دور المعلم هنا يتحول من “ناقل للمعرفة” إلى “ميسر” ، و”وسيط” يخلق بيئات تعلم غنية تدفع المتعلّم إلى الاستقصاء، وحل المشكلات، والتشارك في الحوار، والتفكير الناقد. المعرفة هنا لا تُعطى، بل تُبنى . تُعتبر البنائية الاجتماعية ركيزة أساسية هنا، حيث يتم بناء المعرفة من خلال التفاوض الاجتماعي والحوار المشترك داخل المجتمعات التعلُّمية.
من هذا المنطلق، يتجلى الفرق الجوهري: فبينما يركز التعليم الصريح على فاعلية المعلّم ووضوح المعلومة، يركز التعليم الفعال على فاعلية المتعلّم ، وعملية البناء الذهني. الأول يضمن الكفاءة في تحقيق أهداف معرفية محددة مسبقاً، بينما الثاني يعزز عمق الفهم، والاستبقاء الطويل الأمد للمعلومات، وتنمية المهارات العليا مثل التحليل والتركيب والتقييم (وفق تصنيف بلوم للمجال المعرفي).
غير أن التقييم الحصري لأي من النهجين بمعزل عن الآخر يُعد قصر نظر تربوي. فالفعالية التربوية القصوى تكمن في التوظيف التكاملي والمرن لكلا الأسلوبين، وهو ما يُعرف بالبيداغوجيا المتمايزة . قد يبدأ المعلم بجلسة تعليم صريح مختصرة لتقديم إطار مفاهيمي أو مهارة أساسية جديدة (سد الفجوة المعرفية ) ، ليتحول بعدها مباشرة إلى تصميم أنشطة فعالة تمكن الطلاب من تطبيق هذه المهارة، وتجريبها، وربطها بمعارفهم السابقة، وبالتالي “تملكها” وتحويلها إلى معرفة داخلية . بهذه الطريقة، نضمن عدم إهمال المعرفة الصريحة الضرورية مع تنمية قدرة المتعلّم على توظيفها بشكل خلاق ونقدي.
إن النقاش بين التعليم الفعال والتعليم الصريح ليس معركة يُفوز بها طرف، بل هو حوار ديالكتيكي ضروري. الفلسفة التربوية الرشيدة هي التي تتجنب الانحياز الأيديولوجي لأحد النموذجين وتتبنى رؤية توفيقية ، تعترف بقيمة التوجيه الصريح حين يكون ضرورياً، وتؤمن في الوقت ذاته بأن التعلم الحقيقي والأصيل لا يتحقق إلا عندما يكون المتعلم مشاركاً نشطاً وفاعلاً في تشكيل عالمه المعرفي الخاص.
- – نسيم قبها – باحث في الشأن التربوي – الإئتلاف التربوي الفلسطيني – الحملة العربية للتعليم