7:25 مساءً / 2 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

الإمارات الفلسطينية ، بين التفتيت والسيادة الضائعة ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني

الإمارات الفلسطينية : بين التفتيت والسيادة الضائعة ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني


يمارس الاستعمار على هذه الأرض المثقلة بالتجزئة مكراً لا يكتفي بانتزاع الجغرافيا، بل يسعى لانتزاع المعنى ذاته. إنه لا يسرق الأرض فحسب، بل يعيد رسم حدود الوعي واللغة، فيحوّل الوطن إلى خرائط متكسّرة، والسيادة إلى صلاحيات إدارية، والحرية إلى إدارة يوميات تحت حصار خانق. هنا، يصبح التفتيت فلسفةً للهيمنة: كلّما انقسم الكلّ إلى أجزاء، توهّم كل جزء أنه مستقل، بينما الحقيقة أنه محاصر في قفص من حديد أو من خطاب. وفي قلب هذه المفارقة، تتبدّى المعركة: ليست معركة على الأرض وحدها، بل على الذاكرة، على اللغة، وعلى الحق في أن نُعرّف الحرية بما يليق بجوهرها، لا بما يفرضه قاموس المستعمِر.


على امتداد التاريخ الاستعماري الحديث، أصبح واضحاً أن السيطرة لا تقتصر على امتلاك الأرض، بل تتجاوز ذلك إلى القدرة على إعادة تشكيل وعي الشعوب حول حقها في الوجود والمواطنة. الاستعمار المعاصر لا يكتفي بالقمع المباشر، بل يفضّل التفتيت: تقسيم المجتمعات إلى وحدات صغيرة يُسوَّق لها أنها مستقلة، بينما تظل مفاتيح السلطة الحقيقية خارج أيديها (جدلية، 2017). هذه الاستراتيجية تعكس فهماً عميقاً للطبيعة البشرية والسياسية: من الصعب السيطرة على جماعة واعية ومترابطة، لكن يسهل التحكم بوحدات مشتتة، كل منها يظن أنه مستقل بينما يبقى محكوماً بمنطق الهيمنة.


في جنوب أفريقيا، شكّلت سياسة الأبرتهايد نموذجاً واضحاً لهذا النهج. البانتوستانات، تلك الكيانات التي أُعلن استقلالها على الورق، كانت في الجوهر أدوات لإقصاء السكان الأصليين، وإحكام التبعية، وفرض قيود على الحرية والمواطنة (South African History Online, 2019). أظهرت هذه التجربة أن أي استقلال وهمي لن يصمد أمام وعي جماعي مدرك للفارق بين إدارة الحياة اليومية وامتلاك السيادة الفعلية.


في فلسطين، تتجلى المعادلة نفسها بصياغة أكثر تعقيداً، إذ تمثل التجزئة الإدارية — في الضفة الغربية (مناطق أ/ب/ج)، والقدس بالتفتيت الرمزي، وغزة تحت الحصار والإدارة الرمزية — إعادة إنتاج للبانتوستانات بلغة معاصرة، تتحول المدن والقرى فيها إلى جزر منفصلة، وتختزل الحياة اليومية إلى البقاء ضمن قيود مسبقة، بينما يُحرم المجتمع من تقرير مصيره الكامل. يطرح هذا الواقع مسألة فلسفية وإبستمولوجية: ليست الإدارة مجرد خدمات، بل إعادة تعريف الحرية والهوية والسيادة، حيث تتحول اللغة إلى أداة استعمارية عبر مصطلحات مثل “الإدارة المحلية”، و”الإمارات الإدارية”، و”الحكم الذاتي الجزئي”، لتطبيع التفتيت وطمس واقع السيطرة ليصبح فهم السيادة والحرية والتاريخ الفلسطيني قضية تتجاوز الماديات لتستقر في عمق الوعي الجمعي والرمزي.


إن دراسة هذه التجربة الفلسطينية المعاصرة، في ضوء التجربة الجنوب أفريقية، لا تهدف فقط إلى وصف الواقع، بل إلى كشف البنية العميقة للاستعمار بالتفتيت، وفهم كيف يمكن للوعي الجماعي أن يتحول إلى أداة مقاومة معرفية وسياسية، تعيد إنتاج معنى السيادة والحرية، وتعيد صياغة العلاقة بين الأرض والتاريخ والذاكرة الوطنية. فالتحدي يكمن في قدرة المجتمع على مقاومة الهيمنة المادية والرمزية، واستعادة القدرة على تعريف الحرية بما يتوافق مع جوهرها، لا بما يفرضه الاحتلال أو لغة التفتيت.


المحور الأول: البانتوستانات في جنوب أفريقيا — الاستقلال الوهمي كأداة إقصاء


الاستعمار لا يقوم فقط على القوة المادية أو السيطرة الأمنية؛ إنما جوهره أعمق من ذلك بكثير، فهو مشروع لإعادة تشكيل المعنى، ولترويض الخيال الجمعي للشعوب المستعمَرة. في هذا السياق يصبح التفتيت الإداري أكثر خطورة من الاحتلال العسكري المباشر، لأنه يسعى إلى إقناع الجماعات المقهورة بأنها تمارس سيادتها، بينما هي في الواقع مقيدة بأطر مرسومة. الفلسفة الكامنة خلف هذا النمط من الحكم هي تحويل الحرية إلى “إدارة”، والسيادة إلى “صلاحيات”، والوطن إلى “مساحات خدمة”. هذا النمط ليس صدفة، بل هو أداة لتدجين الوعي وترويض إرادة التحرر.
الخلفية التاريخية


بعد تأسيس نظام الأبرتهايد، اعتمدت الدولة سياسة إنشاء “الأوطان” أو البانتوستانات، كوسيلة لتحقيق استقلال وهمي لجماعات السود، بينما استمرت الأقلية البيضاء في السيطرة على الأرض والموارد (South African History Online, 2019). تم تخصيص عشرة كيانات على أساس إثني–قبلي، وأُعلن استقلال أربعة منها: ترانسكاي 1976، بوفوثاتسوانا 1977، فيندا 1979، وسيسكي 1981، لكن المجتمع الدولي لم يعترف بها، وبقي السكان محرومين من الجنسية الفعلية وحقوقهم السياسية.


الهدف من هذه الكيانات لم يكن مجرد رسم خرائط، بل إعادة إنتاج التبعية: فرض نظام تنقل مقيد بين المدن البيضاء ومناطقهم المحددة، والحد من ممارسة الحقوق السياسية والاجتماعية، وتكريس الفقر والهيمنة (Encyclopaedia Britannica, 2025).


الإدارة الجزئية والوعي السياسي


الاستقلال المعلن كان وهماً منظّماً يخفي الهيمنة الحقيقية. رغم إعلان البانتوستانات كدول مستقلة، بقيت الأرض والسيطرة الاقتصادية والسياسية في أيدي الأقلية البيضاء، بينما صار السكان المحليون مقيمين ضمن إدارة جزئية بلا قدرة على تقرير مصيرهم (South African History Online, 2019). تُظهر التجربة أن السيطرة تتجاوز الوجود المادي على الأرض إلى تشكيل الوعي حول معنى الحرية والمواطنة.


الدروس المبكرة للمواطنة والسيادة


الاستقلال الجزئي لا يلغي المطالبة بالسيادة الكاملة: البانتوستانات انهارت لأنها لم تنتج معنى جامعاً للحياة السياسية (جدلية، 2017).


المقاومة تبدأ بالوعي: المجتمع الذي يدرك أن الاستقلال الإداري مجرد غطاء للهيمنة يرفض الاستسلام للأطر الزائفة ويواصل المطالبة بالمواطنة الجامعة.


التفتيت أداة لإعادة إنتاج الهيمنة: تقسيم السكان إلى وحدات صغيرة يسهل السيطرة عليهم، لكنه لا يكسر روح الجماعة أو هويتها (Encyclopaedia Britannica, 2025).


تقدّم هذه الدروس إطاراً لفهم التجربة الفلسطينية المعاصرة، حيث تتكرر آليات التفتيت بصيغ جديدة: الإدارة الجزئية، الإمارات المحلية، الحواجز، والمناطق المعزولة، معيدة إنتاج نموذج البانتوستانات الذي يفضح حدود الاستقلال الوهمي ويكشف عمق المشروع الاستعماري؛ فالمسألة ليست إدارة السكان بقدر ما هي محاولة لإلغاء حقهم في أن يكونوا شعباً كامل السيادة. وتجربة جنوب أفريقيا تقدّم درساً حيّاً في فشل استبدال المواطنة الكاملة بإدارات جزئية، وفي فلسطين، يؤكد تكرار التجربة بصيغ حديثة أن أي مشروع سياسي لا يقوم على وحدة الأرض والإنسان والذاكرة محكوم عليه بالسقوط أمام الوعي الجمعي المتجذر.


المحور الثاني: التجزئة الإدارية في فلسطين — الإمارات الإدارية والحكم الذاتي الجزئي


التفتيت الإداري في فلسطين ليس مجرد رسم خرائط أو توزيع صلاحيات؛ إنه مشروع لإعادة هندسة العلاقة بين الإنسان والأرض والتاريخ. في كل حاجز، في كل تقسيم إداري، يُعاد تشكيل الوعي الجمعي ليقبل أن يكون المواطن مجرد “مقيم” ضمن فضاء محدد، وأن وطنه يمكن أن يُقاس بالمساحات والخدمات المحدودة. فلسفياً، هذا التفتيت يحوّل الوطن من مشروع سيادة جامع إلى شبكة من القطع المتفرقة، فتتداخل الجغرافيا مع الرمزية واللغة لتصبح أداة لفرض الإخضاع دون الحاجة للقوة المباشرة. هنا تتجلى القدرة الاستعمارية على تحويل الواقع اليومي إلى أداة للقمع الناعم، بحيث يصبح الفرد مشاركاً، أحياناً بلا وعي، في إعادة إنتاج قيوده الخاصة.


الضفة الغربية: مناطق أ/ب/ج والحواجز


منذ توقيع اتفاقيات أوسلو، بدا تقسيم الضفة الغربية كأنه رسم جديد للخرائط، لكنه في جوهره إعادة إنتاج للهيمنة القديمة بطريقة قانونية وسياسية (OCHA, 2014). أكثر من 60% من الأرض أُدرجت ضمن المنطقة “ج”، حيث احتفظ الاحتلال بالسيطرة شبه الكاملة على الأمن والتخطيط، بينما الإدارة الفلسطينية محصورة بقدرات محدودة لا تتجاوز الوظائف البلدية (Vision Palestinian Development, 2025). الحواجز — التي تصل إلى 849، منها 94 على مدار الساعة — تُحوّل التنقل اليومي إلى اختبار للوجود والكرامة (OCHA, 2025).


القدس: التفتيت الرمزي والمعركة على المعنى


القدس قلب السيادة الفلسطينية، تتحول إلى نموذج للتفتيت الرمزي. الإدارة الفلسطينية محدودة، بينما يفرض الاحتلال مشروعه الاستعماري عبر السيطرة على الرواية التاريخية والقانونية لكل شارع وحجر (أبو الرجا، 2025). المعركة ليست فقط على الأرض، بل على اللغة والرمزية: إعادة تسمية الشوارع، تهويد المواقع التاريخية، وحجب الذاكرة الجماعية عن الفضاء العام.


غزة: الحصار والإدارة الرمزية


غزة تمثل الوجه الأكثر فجاجة للتفتيت الإداري. أكثر من 330,000 وحدة سكنية مدمّرة أو متضررة، وحصار مطلق يجعل الإدارة المحلية مجرد قناع فوق الواقع اليومي (OCHA/UNRWA, 2025). الاقتصاد يُستثمر كأداة للسيطرة: أكثر من 80% من السكان يعتمدون على المساعدات الإنسانية (UNRWA, 2025).


تؤكد التجربة الفلسطينية أن التفتيت الإداري استراتيجية شاملة لإعادة إنتاج الهيمنة: الإدارة الجزئية، تقسيم الأرض، السيطرة على الاقتصاد، وحتى اللغة، جميعها أدوات لإبقاء المجتمع مقيداً، بينما يظل الوعي الجمعي أداة المقاومة الأهم. الحواجز والمناطق أ/ب/ج والإمارات الإدارية ليست سوى واجهات للسيطرة، لكن ارتباط الشعب الفلسطيني بالذاكرة والهوية يخلق مقاومة معرفية تتجاوز الحدود المادية، وتعيد صياغة السيادة والحرية كحق شامل لا يُجزّأ، ليصبح الوعي الجمعي قوة فكرية وسياسية تواجه محاولات الهيمنة الناعمة وتعيد تعريف الأرض والإنسان والتاريخ كوحدة متصلة لا تقبل التجزئة.


المحور الثالث: الفلسفة المشتركة — استعمار بالتفتيت لا بالإزالة


الاستعمار الحديث يفضّل التفتيت على الإزالة، ليس لأنه أقل عنفاً، بل لأنه أكثر ذكاءً: هو السيطرة على الوعي، على اللغة، وعلى الرمزية، قبل السيطرة على الأرض. في هذا السياق، يصبح التخطيط الاستراتيجي لكل تصريح مرور، لكل إدارة جزئية، وكل مصطلح مثل “الحكم الذاتي الجزئي” أو “الإدارة المحلية” جزءاً من شبكة متكاملة لإعادة تشكيل وعي الشعب. الفلسفة هنا تكمن في أن السيطرة لا تحتاج دوماً إلى القوة المادية المباشرة؛ يكفي أن يُقنع الفرد بأن حرية جزئية تعادل الحرية الكاملة، وأن إدارة يومية تعادل السيادة، ليصبح القمع مزروعاً في وعيه نفسه، وتتجلى هذه الإستراتيجية في عدة أبعاد على النحو الآتي:


التحليل الاستراتيجي: الاستعمار الحديث يعتمد على تفتيت الجماعة إلى وحدات صغيرة قابلة للإدارة والسيطرة، مع التأكيد على أن السيطرة على الوعي أكثر فعالية من القمع المباشر (جدلية، 2017). المواطنة تتحول إلى وظيفة يومية، السيادة إلى صلاحيات محدودة، والحرية إلى قدرة جزئية على إدارة الحياة اليومية ضمن حدود مرسومة.


الاقتصاد والسيطرة اليومية: التحكم في الموارد الاقتصادية يعيد إنتاج التبعية السياسية: في الضفة الغربية، 78% من المياه تحت السيطرة الإسرائيلية، وفي غزة أكثر من 80% من السكان يعتمدون على المساعدات (OCHA, 2025; UNRWA, 2025). البقاء اليومي يصبح أداة للسيطرة الاستعمارية الناعمة.


اللغة كأداة استعمارية: مصطلحات مثل “الإدارة المحلية”، “التنسيق الأمني”، و”تصاريح المرور” تصبح مألوفة، لكنها أدوات لإعادة تشكيل الوعي (أبو الرجا، 2025). مما يجعل دحر الاحتلال وإنجاز الاستقلال مرتبطاً بإعادة بناء قاموس السيادة والحرية والوطن


يظهر التحليل أن مقاومة هذا النوع من الاستعمار تتطلب استراتيجية مزدوجة، تجمع بين مقاومة رمزية تكمن في إعادة بناء المفردات والمفاهيم، ومقاومة يومية تنبثق من إعادة إنتاج شبكة العمل الوطني. فالقوة الحقيقية للمجتمع تكمن في وعيه الجمعي المدرك بأن أي استقلال إداري ناقص ليس بديلاً عن السيادة الكاملة، وأن تحرير الوطن يبدأ من تفكيك الخطاب الاستعماري وإعادة صياغة المعجم الوطني، ليصبح الفلسطيني فاعلاً سياسياً ومعرفياً متكامل الوجود، يفرض على العالم احترام حقوقه وكرامته وحقه في تقرير مصيره.


المحور الرابع: الدروس المستفادة — الوعي المضاد لاقتصاد التجزئة


الوعي الجمعي ليس مجرد حالة ذهنية، بل أداة فلسفية عملية لإعادة صياغة السيادة. التفتيت الإداري يحاول تحويل الحرية إلى قدرة على إدارة اليوميات، والوطن إلى وحدات محلية محدودة، لكن التاريخ يظهر أن الجماعة التي تحتفظ بذاكرتها الجماعية لا يمكن حصرها في خرائط أو تصاريح. في هذا السياق، يصبح الوعي المضاد هو الطاقة الحقيقية التي تحوّل التجزئة إلى حافز لإعادة إنتاج المعنى السياسي والثقافي، بحيث تتلاقى السيادة، الذاكرة، والحرية في مشروع وطني شامل يتجاوز حدود الحصار الجغرافي والإداري.


الاستقلال الوهمي يسقط أمام وعي جماعي: تجربة جنوب أفريقيا تُظهر أن الاستقلال الإداري الجزئي لا يصمد أمام وعي جماعي يدرك الفرق بين إدارة الخدمات والسيادة الحقيقية (South African History Online, 2019). البانتوستانات كانت واجهات فارغة، حجبت السيطرة الاستعمارية لكنها لم تمح توق الأغلبية للحرية والمواطنة.


مواجهة الاحتلال تبدأ باستعادة المعنى واللغة: المعركة ليست فقط على الأرض، بل على المعنى واللغة. حين يُسوَّق “الاستقلال الإداري” كبديل عن السيادة، تتحول الكلمات إلى أدوات استعمارية، وتختزل الحرية إلى صلاحيات بلدية، والوطن إلى وحدات خدمية، والشعب إلى “مشاريع محلية” بلا أفق جامع (أبو الرجا، 2025).
الاستنتاجات


لوعي الجمعي أساس الصمود: فكل تفتيت إداري أو رمزي يتهاوى أمام مجتمع مدرك لمعنى السيادة والحرية، قادر على التصدي لمحاولات التقسيم والسيطرة.


المقاومة الفكرية والرمزية مكمّلة للمادية: إعادة بناء المفردات الوطنية واستعادة المعاني الجامعية تشكّل جبهة مواجهة متوازية، تحمي الهوية من طمس الاحتلال الناعم.


الاستفادة من التاريخ والتجارب المقارنة: فهم دروس التجارب المحلية والعالمية يوفر أدوات معرفية لتحليل السياسات الاستعمارية الحديثة ومواجهتها بوعي استراتيجي.


الفعل اليومي ساحة صراع مستمرة: كل ممارسة حياتية، من إدارة الموارد إلى التعليم والعمل المدني والثقافي، تصبح وسيلة لإعادة إنتاج الحرية ومواجهة الهيمنة.
السيادة كعملية مستمرة وشاملة: امتلاك الأرض

والمعنى والحدود ليس مطلباً سياسياً فقط، بل مشروع تربوي ومعرفي يعيد بناء الجماعة الوطنية كوحدة متماسكة.
الحرية الإدراكية تتجاوز القانون والجغرافيا: الفهم الحقيقي للحرية يدمج الحقوق والوعي الجماعي، ويحوّلها إلى ممارسة مستمرة تُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والجماعة والوطن.


تظهر التجربة الفلسطينية المعاصرة أن الصمود أمام التفتيت الإداري ليس مجرد دفاع عن الأرض أو المؤسسات، بل هو فعل وجودي يتجاوز الجغرافيا ليحفظ الروح والذاكرة ويعيد إنتاج الهوية في وجه محاولات المحو. فكل حاجز، وكل تقسيم جزئي، يتحول إلى لوحة يكتب عليها المجتمع وعيه، ويعيد من خلالها رسم حدود السيادة بمعناها الكامل. تبدأ المقاومة الحقيقية حين نستعيد المعنى، ونعيد اللغة الوطنية إلى جوهرها: وسيلة لتوسيع الحرية لا لاحتوائها، ونسيجاً يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، لإعادة الوطن إلى حقه الشامل الذي لا يُقسم ولا يُقيد.


الخاتمة


إن التجارب الفلسطينية والجنوب أفريقية تؤكد أن التفتيت الاستعماري لا يقتصر على السيطرة المادية، بل يمتد ليحاول تقويض الوعي الجمعي وتحويل الحرية والسيادة إلى قدرات جزئية محدودة. ومع ذلك، يظل وعي الجماعة حصناً لا يُقهر، وذاكرتها المشتركة ناراً لا تخبو، فالصمود الحقيقي يبدأ من استعادة المعنى واللغة والرموز الوطنية، وتحريرها من الهيمنة الرمزية. إن التفتيت الإداري أو الاقتصادي قد يعيق، لكنه لا يقهر روح الجماعة، إذ تملك الإرادة المعرفية والسياسية القدرة على تحويل القيود اليومية إلى فعل تحرري مستمر.


وفي النهاية، صمود الجماعة هو إعادة تعريف للحرية والسيادة والمعنى الجمعي، وتأكيد على أن الوطن ليس مجرد مساحة جغرافية، بل شبكة من العلاقات التاريخية، والحقوق الجماعية، والذاكرة الوطنية التي لا يمكن لأي قوة خارجية إفراغها من محتواها. فالحرية الشاملة، والكرامة الجماعية، والمواطنة الكاملة هي الأفق الذي تستعيده الجماعة الواعية، فتتحول القدرة على الصمود من فعل يومي إلى مشروع مستمر، يحفظ للإنسان مكانه كفاعل حر وواعٍ في تاريخ وطنه ومستقبله، ويؤكد أن الأمل في التعليم والكرامة لا يمكن أن يُمحى.

شاهد أيضاً

د. ليلى غنام تزور الإعلامي ناصر اللحام وتهنئه بالإفراج عنه من سجون الاحتلال

د. ليلى غنام تزور الإعلامي ناصر اللحام وتهنئه بالإفراج عنه من سجون الاحتلال

شفا – زارت محافظ محافظة رام الله والبيرة د. ليلى غنام ، اليوم الثلاثاء، الإعلامي …