1:10 صباحًا / 26 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

التكرار بين الإيقاع والرمزية في قصيدة ” معراج اللذة ” للشاعر عبد الناصر صالح ، بقلم : د. مريم أبوبكر

التكرار بين الإيقاع والرمزية في قصيدة ” معراج اللذة ” للشاعر عبد الناصر صالح ، بقلم : د. مريم أبوبكر


غالبًا ما يحدث التكرار في القصيدة انعكاسًا للدفقات الشعورية والتي مصدرها عاطفة الشاعر النابضة من مخيلته الإبداعية والوجدان؛ حيث يتماهى الشاعر مع وجدان أمته وشعبه, فيصبح التكرار وسيلة لتكثيف الانفعال وتثبيت الدلالة يضيف إيقاعًا داخليًا لبيت القصيد يوازي حدة الشعور ويضاعف أثره في المتلقي.


ويساعد التكرار على انبعاث نوع من الموسيقى النفسية تثير في المتلقي فهمًا عميقًا للحالة الشعورية التي مرّ بها الشاعر أثناء نظمه قصيدته, وتترك في المتلقي أثرًا عاطفيًا ونفسيًا بعمق وعيه للجانب الدلالي للكلمات.


يعزز تكرار الحرف في القصيدة من بنيتها الإيقاعية والمجازية؛ فيحمل الحرف المُكرر جرسًا موسيقيًا ومعنًى دلاليًا مجازيًا يكشف عن عمق التجربة الشعورية, ويأتي تكرار الهمزة في المقطع الأول من قصيدة ” مِعراج اللذة ” دالًا على تصاعد الشعور بنبض سمو العاطفة ليتجاوز حدود الوعي العادي متساميًا نحو كثافة التأثير في المتلقي؛ فالهمزة حرف انفجاري يمنح الكلمة قوة إضافية فيرتفع معها الانفعال ومستوى الدهشة والمفاجأة, وجاء تكرار الهمزة في الكلمات” أرى, أمضي, أدشن, أوسمة, أخيلة, أقدامها “, ولإحداث التوازن على وتيرة إيقاع القصيدة جاء تكرار حرف الميم منسجمًا مع المشهد يضيف إلى الموسيقى الداخلية هدوءًا وراحة في عمق العاطفة والذكريات, ويأتي تكرار حرف الميم في الكلمات ” مرايا, الكلام, الزحام, أمضي, أوسمة, المُخضب, أقدامها, المعمداني” ؛ وبين إحساس الشاعر بالتوتر والانفعال, بالطمأنينة والحنين, وفي لحظات صعود المشاعر وانحدارها, يقول عبد الناصر صالح:
أرى وجهَها في مرايا الكلامْ
أرى وجهَها في الزّحامْ
وحين يداهِمُني الشّعرُ مُنتشياً بالفُجاءةِ
أمضي حثيثاً إلى صدرِها العبقريِّ،
أُدّشِنُ أوسمةً للغناءِ
وأخيِلَةً للحنين المُخضّبِ،
أمضي حثيثاً إليها
لئلاّ على وَقْعِ أقدامها المعمدانيِّ
ينكسر القلبُ,
ولأجل إحياء الحركة في النص, يكرر الشاعر كلمات لإغناء دلالاتها وإكساب النص قوة تأثيرية تتوزع على جسم النص من استهلاله حتى الختام, فيكرر كلمات مثل ” لي, مللت ” لأكثر من مرة, فجاءت دلالة التكرار في لفظة ” لي” إلحاحًا على التملك والتمحور حول الذات, معتزًا بذاته الشاعرة الواعية معلنًا عن تمسكه بالمحبوبة وطنه “فلسطين” صامدًا في مواجهة المحتل, يؤكد مرارًا وتكرارًا في خطابه حقه في ملكية الأرض وانتماءه للوطن والهُوية, في تواتر يصنع منه إيقاعًا داخليًا قصيرًا يعكس حرارة الشعور الداخلي, بينما جاء تكرار لفظة ” مللت ” متعلقًا بشعور الضجر والتعب الداخلي الذي يحمل إيقاعًا يتناغم مع شعور بالانطفاء من طول الانتظار, ويرسم الشاعر من خلال الضدية في لفظة ” لي, ومللت ” صورة داخلية متكاملة بشكل دائري تؤكد على الانغلاق على الذات وانطفائها, وبكل ضجر يبوح الشاعر بإلحاح ناتج عن ملل يثقل روحه وإرهاق بات يسكنها, قائلًا:
ولي ـ تحت جُنحِ الملذّاتِ ـ معصيةٌ
وهزائمُ من فضّةٍ ونَيازكُ تَخبو،
ولي خَلوةُ الملهمينَ وميراثُهم
سوءَةُ الطالعِ الحاكمِ الأُلعبانْ.
ولي قمرٌ أعزَلُ الضوءِ
لي شجرٌ فارهٌ كالوشايةِ
حول ضفافِ البيانْ.
مللتُ التراتيلَ
تزحَفُ ذاهلةً في الخسارةِ،
مثل نياشينِ قتلى الجنودِ
مللتُ تقاسيم حزني
مللتُ الصحاري وغَرْغَرَتي فوق كُثبانِها،
مللتُ صريرَ الكهوفِ
وسطوةَ سيفي على غِمدهِ،
والصعاليكَ يقتسمونَ الكؤوسَ
مللتُ حريقَ الخطابةِ يلفَحني في الجنازاتْ.
مللتُ الهتافَ المُقنّعَ في المهْرَجاناتْ.
مللتُ مقايضَةَ الشّعرِ بالعملِ المكتبيِّ
مللتُ،
مللتُ
ولتحقيق التوازن الهندسي والعاطفي بين الكلام ومعناه, يجود الشاعر بتكرار تراكيب وجمل بهدف ربط أجزاء القصيدة وتماسكها ضمن دائرة واحدة, في نسق شعري متناسق وإيقاع يثير دهشة المتلقي ويدفع الحركة التعبيرية للأمام بقوة إيحائية ذات أفق مفتوح, وقوة مجازية مقننة المعاني والشعور, فيثري الشاعر النص بعمق الدلالة وتعدد المعاني, ويثير حماسة المتلقي لتتبع الإيحاء والتأويل, ويحمل تكرار التركيب ” قد غَسلَ الثلجُ بين ضلوعي ثلاثينَ حزناً ومملكةً للجنون ” دلالات مفتوحة التأويل, يبنى من خلالها الشاعر تجربته بين الطُّهر والجنون في ثنائية ضدية عكست حالته الشعورية المُتأرجحة عميقة التناقض, بين الألم والتّطهير, وبين الحزن والجنون ليتسع التناقض مع كل تكرار حتى قيام مملكة بلا حدود, يقول الشاعر:


أنا العاشقُ الذائعُ الجرحِ،
قد غَسلَ الثلجُ بين ضلوعي ثلاثينَ حزناً
ومملكةً للجنون..

ما زلتُ أحلُمُ،
كان المساءُ طويلاً
وقد غسلَ الثلجُ بين ضلوعي
ثلاثينَ حزناً
ومملكةً للجنون.
بين الصعود والارتقاء حتى ذروة الشعور, واتساع الفوضى والجنون حد التلاشي في الذات الشاعرة, وبشكل دائري تأتي لحظة السيطرة الكاملة على الشعور وضبط بوصلة الذات الشاعرة اتجاه حب الوطن “فلسطين”, ويتكامل التكرار بين الإيقاع والمجاز في حدود المباشرة إلى آفاق الرمز ليتحول إلى طقس شعوري يُرسّخ المعنى ويضاعف أثره في المتلقي, وأمام دلالات مفتوحة التأويل تتقاطع الأصوات والإيحاءات لترتقي الروح ضد عبثية الوجود احتفاء باللغة وحب الوطن “فلسطين”.
وفي حركة متواترة بين الموسيقى الداخلية للنص والرمز, وبين اللغة والمعنى, عرج عبد الناصر صالح بروحه الموجوعة صعودًا نحو قداسة حب الوطن “فلسطين” والحنين, في تجربة حسية وروحية مرتبطة بالأماكن والذكريات حيث لم يعد الوطن مكانًا جغرافيًا وحسب إنما رمزًا للسلام الداخلي والانتماء الشعوري والارتباط العاطفي.

  • – بقلم د. مريم أبوبكر – المدير الثقافي لفرع الشمال في نادي أحباب اللغة العربية الفلسطيني

شاهد أيضاً

الأمن الوقائي يضبط معملاً لتزوير المعسل في الخليل ويوقف القائمين عليه

الأمن الوقائي يضبط معملاً لتزوير المعسل في الخليل ويوقف القائمين عليه

شفا – ضبط جهاز الأمن الوقائي في الخليل، بالتعاون مع جهاز الضابطة الجمركية، يوم الاثنين، …