11:37 مساءً / 20 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

الصمت كفعل معرفيّ : في البيداغوجيا الصامتة ، بقلم : نسيم قبها

الصمت كفعل معرفيّ : في البيداغوجيا الصامتة ، بقلم : نسيم قبها

في خضم الضجيج البيداغوجي السائد، حيث تسود خطابات الإلقاء والتوجيه المباشر، تنبثق “البيداغوجيا الصامتة” كتيار فلسفي تربوي مثير للتأمل. إنها ليست مجرد غياب للصوت، بل هي حضورٌ مكثفٌ للفعل التربوي المُتعمَّد، حيث يُصبح الصمت لغةً بيداغوجيةً قائمةً بذاتها، حاملةً في طياتها رؤيةً أنطولوجيةً (وجودية) وإبستمولوجيةً (معرفية) مغايرة لماهية التعلُّم ودور المُعلِّم.

أسس فلسفية: من السلبية إلى الفعلانية المتعالية:


تقف البيداغوجيا الصامتة على أكتاف تراث فلسفي عميق. فهي تستحضر “مايوتيك” (التوليد) السقراطي، حيث لا يقدم الحكيم المعرفة جاهزة، بل يستثيرها من أعماق المُتعلِّم عبر أسئلة تُفضي إلى التأمل الداخلي والصمت الإيجابي المليء بالبحث. كما تتقاطع مع مفهوم جان جاك روسو عن “التعليم السلبي” في كتابه “إميل”، الذي يرفض التشويش على الطبيعة الداخلية للطفل بالتدخلات المباشرة الزائدة، ويؤكد على أهمية البيئة المعدَّة بعناية كمعلم صامت. يتجاوز الصمت هنا كونه “غيابًا” للكلام (مفهوم سلبي) ليصبح “حضورًا” فاعلًا للذات في حالة تأملية نشطة ، وهو ما يتوافق مع الفينومينولوجيا (علم الظواهر) عند هايدغر، حيث يتطلب الوصول إلى جوهر الأشياء (الكينونة) توقُّفًا عن الثرثرة والانصات للوجود.

الصمت كفضاء أنطولوجي للتعلُّم الذاتي:


في قلب هذه البيداغوجيا، يُعد الصمت فضاءً وجوديًا ضروريًا لتجذُّر المعرفة. إنه الشرط الذي يسمح للذات المُتعلِّمة بالاستغراق في العالم الداخلي للتأمل والتفكُّر ، بعيدًا عن تشتيت الخطاب الخارجي. هذا الصمت ليس فراغًا، بل هو وعاءٌ يُتيح للعقل ممارسة “الحوار الداخلي” ، وبناء المعاني الذاتية، وربط الأفكار بوتيرته الخاصة. إنه يُعزِّز “الاستقلالية الفكرية” ويُرسِّخ مفهوم “بنائية المعرفة” كما صاغها بياجيه، حيث تُبنى المعرفة بشكل نشط من قِبَل الفاعل التربوي نفسه عبر تفاعله مع محيطه وتمثُّله الداخلي.

دور المُعلِّم: من الملقِّن إلى مهندس البيئة وميسِّر الصمت:


يتحول المُعلِّم في هذا النموذج من “حامل المعرفة” إلى “مهندس بيئة التعلُّم” و”ميسِّر الصمت الإيجابي” . مهمته الأساسية لم تعد الإخبار، بل التصميم الدقيق للسياقات والمواقف والمهام (المشكلات، المواد، الأدوات) التي تُستثار فيها فضولية المُتعلِّم وتدفعه تلقائيًا نحو البحث والتجريب والتأمل. يستخدم المُعلِّم أدوات غير لفظية: نظرة تشجيع، إيماءة موافقة، ترتيب دقيق للفضاء، مواد غنية ومحفزة. هذا هو “التدريس غير المباشر” الذي تحدثت عنه ماريا مونتيسوري، حيث يتلاشى الخطاب الصريح لصالح بيئة مُعِدَّة تتحدث بذاتها وتوجه النشاط نحو أهداف بيداغوجية محددة. يُمارس المُعلِّم “ضبط النفس البيداغوجي” ، مُقاومًا إغراء تقديم الإجابات، ليسمح للمتعلِّم باختبار “اللحظة الحاسمة” حيث ينبثق الفهم الذاتي من صميم التجربة والصمت.

الصمت والاكتشاف والخطأ: إبستمولوجيا التعلُّم التجريبي:
تستند البيداغوجيا الصامتة إلى إبستمولوجيا (نظرية معرفة) تؤمن بأن المعرفة الحقيقية تنبثق من الفعل والتجربة الشخصية والمواجهة المباشرة مع الواقع. الصمت هنا هو الفضاء الذي يُتيح للمتعلِّم الانخراط في “التعلُّم بالاكتشاف” و”التعلُّم التجريبي” . إنه يمنح الوقت والهدوء اللازمين للملاحظة الدقيقة، والتجريب المنهجي، ومواجهة التحديات، وارتكاب الأخطاء – التي تُعتبر لحظات معرفية ثمينة (“البيداغوجيا الإيجابية للخطأ”). في هذا الصمت، تتشكل “الاستبصارات” وتنضج الفرضيات. يُشكِّل الصمت، إذن، شرطًا أساسيًا لتجسيد “دورة التعلُّم التجريبي” لكولب: التجربة الملموسة، الملاحظة التأملية، التكوين المفاهيمي المجرد، والتجريب الفعال.

نقد وإشكالات: حدود الصمت وضرورة التوازن:


لا تخلو البيداغوجيا الصامتة من إشكالات فلسفية وعملية. فالنقد الأساسي يتعلق بـ”سلطة الصمت”: هل يُخفي الصمت المُتعمَّد للمُعلِّم نوعًا آخر من التوجيه، قد يكون أكثر خفاءً لكنه ليس أقل تأثيرًا؟ ألا يُمكن أن يُساء فهم الصمت كلامبالاة أو نقص في الدعم، خاصة لدى المتعلمين الصغار أو ذوي الاحتياجات الخاصة؟ كما يطرح “صمت الجماعة” تحديًا: كيف يُمكن ضمان مشاركة جميع الأفراد وتفاعلهم في فضاء صامت؟ هل يُمكن تعميم هذه البيداغوجيا على جميع أنواع المعرفة (المجردة جدًا، الإجرائية البحتة)؟ ألا يُخاطر التركيز المفرط على الذاتية بإهمال البُعد الاجتماعي والتشاركي للتعلُّم؟

الصمت كفعل مقاومة وتجذُّر:


البيداغوجيا الصامتة ليست دعوة للخرس، بل هي فلسفة تربوية عميقة تُعيد الاعتبار للصمت كفعل وجودي ومعرفي جوهري في عملية التعلُّم. إنها تمثل مقاومةً للصخب السطحي والاستهلاك السلبي للمعلومات في عصرنا. فهي تؤمن بأن المعرفة الحقيقية لا تُلقَّن، بل تُولَد في أعماق الذات المُتأملة الفاعلة. تتطلب هذه البيداغوجيا مُعلِّمًا فيلسوفًا، واعيًا بقوة الصمت وتأثيره، قادرًا على هندسة البيئة وصياغة المهام التي تُحفِّز البحث الداخلي دون إملاء. إنها دعوة لاستعادة “العمق” في التربية، حيث يُصبح الصمت الفضاء الخصب الذي تنبت فيه بذور الفهم المستقل، والمسؤولية المعرفية، والحكمة التي تنبع من التجربة والتأمل الصامت في عجائب العالم والذات. في هذا الصمت المُختار والمُصمَّم بعناية، يكمن صوت التعلُّم الحقيقي الأعلى.

  • – نسيم قبها – باحث في الشأن التربوي – الإئتلاف التربوي الفلسطيني.

شاهد أيضاً

حل طبيعي للتحكم بالسكري دون أدوية

الزنجبيل ، حل طبيعي للتحكم بالسكري دون أدوية

شفا – درس باحثون أمريكيون تأثيرات مكونات طبيعية على إدارة مرض السكري من النوع الثاني …