
مجاز على الحاجز في قصيدة “صحبنا الموت” للشاعر إيهاب مشاقي ، بقلم د. مريم أبوبكر
يتجاوز الشاعر إيهاب مشاقي بوعيه الحر فكرة الحواجز المادية التي تُفتت الجغرافيا في الأرض, وتُقيّد المعنى ضمن حدود الكلمات, وفي سياقها الثقافي بحصر الدلالات, وبوعي ذاته الشاعرة يفتح نوافذ الاحتمالات والأسئلة؛ ليشعل حركة الفكر متحررًا من القيد الاجتماعي في حدود قوالبه الوضعية.
يستمد الشاعر بيانه من ضِديّة الموت والحياة حتى يُدرك المتلقي بوعيِهِ أنهما مراحل لاستدامة ترسيخ الهُوية على أرض الوطن “فلسطين” بكل أشكال المقاومة والتضحية والوفاء, في صراع دائم حد التلاشي في أسرار خفية, حيث تحيا الأوطان على أنقاض واقع الصمود وجدلية البقاء بين الاستمرار والفناء.
يقف إيهاب مشاقي في قصيدته “صحبنا الموت” على الحاجز بين الحياة والموت, فيتشكل الخطاب في القصيدة والمجاز الذي يحمل شموخ معاني الصراع في مشهد مواجهة المصير المحتوم, يرافق الموت الفلسطيني لدرجة أنه يعرفه فيتبادل معه التحية ليتعايش معه وكأنه جزء من هُويته, يقول الشاعر:
صَحبنــــا المـوت حتى صارَ منّا يعرفنـــا إذا يلــقِ التحيّــة
صَحبنا الموت حيث الموت خلّ لقوم ليسَ ترزيهم رزيّة
يُدانينـــــــــا يحدّثنـــــــــا فيهفــــــــــــو تُخاجِلْه حروف الأبجديّة
يعيــــشُ المــــوت فينـا كل دهــــر فيكسب السجيّة والمزيّة
يُعلّمـــــه المـــــروءة كـــــلّ طفــــــل إذا مرّ الدّيـار الحاتميّــة
لِذلك لـــــو يغيـــب المـــوت عنّـــا يعود وطيّ راحته النديّة
وفي ظل الثنائيات الضدية: الخوف والشجاعة, الخضوع والكرامة, يتحول البيان من خطاب مكتوب إلى لغة الفعل والمواقف النضالية لتصل إلى الشعوب النبيلة فتقرأها بلسان التضامن والتكاتف, وتهديها إلى الوطن “فلسطين”, أرض الثبات والأمان والنقاء, وطن برائحة المريمية ملاذ الحواس وبستان تجذر الهُوية والانتماء, يقول إيهاب مشاقي:
بيــــــانٌ ليـــــس يقـــــرأُه لســــــانٌ ويقــــرأه رصــــاص البندقية
بيـــــانٌ فاسمعـــــوا ما جاء فيه يبلغنـــــا من الدهـــر التحيـة
تحايا سوف يسمعها الأعادي وتفهمها البلاد الأعجميّــــة
تحايا ليــــــس يعرفهـــــا جبــــانٌ وتعرفها الشعوب الأكرميّــة
تحايا إذ تقـــــوم لهـــــا المعالي نناقلهــــــا براحـــــاتٍ نديـّـــــة
نناقلهـــــــا بكـــــف فــوق كــــــف إلى امــــرأة تبيــــع المريميّة
يتسع المشهد في حنايا القصيدة؛ فيشمل سريالية الحرب بالتناقضات الحتمية, فالسريالية تجرد الحرب من خطيئتها لتعيد رسم الحلم؛ إذ تختلط الضحكة بالصراخ, والنصر بالهزيمة, والسماء بالأرض, ورقص يرسو على مرافئ الموت, وسخط على الطغاة يعيد الشاعر إلى عصور غابرة فيستدعي الخنساء دالًا على شدة الصبر, ويستحضر الشاعر شباب القادسية وبطولاتهم في مفارقة تاريخية رامزًا لاختراق حصون الإمبراطورية الفارسيّة, وفي إشارة لولاء الشاعر لوطنه وانصهاره في الجماعة يستدعي المثل العربي من سياقه الشعري ” وإن غوت غويت…”, وتأتي حتمية التناقض التاريخي في الجمع بين شخصيات من أزمنة مختلفة, وباختلاط الأزمنة تتلاشى الحواجز بين المتناقضات, ويزول الجدار بين الحق والباطل حتى التبسا, والله وحده يعلم جوهر الحقيقة!, يقول الشاعر:
تحـــــلّ بنـــا المــآسي والرزايــا فنــــدفع كـــــلّ همّ أو رزيّـــة
إذا دقّت طبـــول الحرب قمنا لنرقــص فوق أكتاف المنيّة
لنا في الصبر خنساءات كثر وشعـبٌ من شباب القادسيّة
إذا جـــــــار الطّغــــاة بنا علينا نعود إلى عصورِ الجاهليّـة
جمعنا الرشد من جنبيه لكن سنغوي طالما تغوي غزيّـــة
ولو عــــــاد الزمـــان بنا رأينا عليّ يقـــود جيش بني أميّة
ويواجه الشاعر فلسفة عبثية الموت بوعيه الحر, وإدراكه السامق, ويقينه العالي, فالموت نتيجة حتمية في الحياة, ولابد من تجرع مرارته باكرًا في سبيل قضيّة الوطن سليب الحرية “فلسطين”, فيضحي الشاعر بروحه وفاء وانتماء للأرض والهُوية, بلا ثمن ولا دية؛ يقول إيهاب مشاقي:
كفانا أنّ هذا الموت يدنـو إلينا كي يُشاطرنـا البليّة
كفانا أنّ هذا الدّهر يصبو إلينا كي يبـــرّر كلّ غيّـــة
كفانا أنّنـــــا نَهَــب المنايـــــا ولم نطلب لهـا مالًا ودِيّة
وتأتي البشائر على غيم المعارك ليولد الطفل حرًا لأم تعلمه مبدأ العزة, وأن الموت في سبيل الوطن مجد ممتد بطول الليالي التي لا تنقضي, فالشهادة في فلسطين جزء من تعريف المولود الحر في شهادة ميلاده, فيحتفي الشاعر بالشهادة ويعلن عن ثقافة المقاومة المتأصلة بالموروث والنشأة, قائلًا:
نُبشّــــــر بالوليدُ الحرّ لكن عجــيّ أو لــه أم عجيّـــة
إذا بلغ الفطــــام لنا رضيع نسجلــه شهيدًا بالهُــويّة
نُعلمــه بـــأن يحيـــا عزيـــزًا وإلا أن يموت بغير غيّة
وأنّ الموت للأوطــان عمرٌ طويلٌ كاللّيالي السّرمديّة
وفي محراب الوطن “فلسطين”, يختبر الشاعر العقيدة الوطنية, وفريضة الشعائر المفروضة قسرًا على أبناء وطنه, هل تثبت أمام القيد وعظم المحنة؟, ليرتفع دين الأوطان نحو سماء المعنى, وارتقاء طوعي إلى مراتب عليا عبر الموت لحماية الأرض والهُوية من مساس الأعداء بالقضيّة, وفي مشهد الجنازات العسكرية تتكامل رسالة بيت القصيد والمغزى, فالوفاء للأرض المقدسة عبادة, وبين الفخر والهيبة يُشَيَّع الشهيد بطقس عسكري مهيب, ليكشف الشاعر في الختام عن سر الخلاص والخلود عائدًا إلى وطنه “فلسطين”, وتنتهي الملحمة بالتحايا العسكرية, يقول الشاعر:
وللأوطانِ في الأعناقِ دينٌ فســـدّد ما تبقى من بقيّة
فيختـــــــارُ العليـــــةَ لا يبالــي فنعليـــه على ظهر المنيّة
لأهون ما يصيبُ الحُرّ فينا لَظى نارِ الرّصاصةِ أو شظيّة
كأنّ النـــــارَ حِبْرٌ فوقَ جلْـدٍ فتنقشُ فوقهُ وجه القضيّة
فيرقــى للسّمــاء فِداءَ أرضٍ مخافة أن تمسّ لها أذيّـــة
فيعلـــو للسّمــا العُليا يُباهي بُراقًـــــا فوقَــــه خيرُ البريّـــة
نُشيّعـــــه إلى دارِ المعالـــي نواريهِ الدّيــــارَ المقدسيّــة
فيأتي المجْدُ في عرضٍ مهيبٍ يؤدّيه التّحايــا العسكريّــــة
ومن هشاشة الوجود تنبت بذرة الخلود, وتثمر فلسفة الشاعر إيهاب مشاقي للموت من منظور وعيه, حيث يصبح الفناء شرطًا للبقاء! , وحلًا للمأساة والمعاناة, فيروي الشهيد أرض وطنه “فلسطين” بدمه؛ لتحيا هي ويفنى هو في أسمى معاني الوفاء, وبين الحياة والموت يكشف الشاعر عن عظيم معاني العطاء في سبيل رحلة البقاء حتى بات الموت سبيلًا لإدراك المعنى الأسمى الذي يتمركز حول الحرية والتحرر والاستقلالية المُطلقة, وبذلك يتجاوز الشاعر حاجز المحتل والفناء بسريالية الموت والبقاء! .
- – د. مريم أبوبكر – المدير الثقافي لفرع الشمال في نادي أحباب اللغة العربية الفلسطيني