
المقدس ومرآة الوعي في قصيدة حالات البحار العاشق ، بقلم : د. مريم أبو بكر
المُقدّس ومرآة الوعي الأزرق في قصيدة حالات البحّار العاشق
للشاعر عبد الناصر صالح
يتوقف الزمن عند البعد الرابع للمُقدّس, حيث لا تُصلي بشفتيك, بل برعشة وعيٍ في حضرة الغياب الحاضر.
يعكس الشاعر عبد الناصر صالح في قصيدته ” حالات البحّار العاشق” مستوى وعيه الأزرق بعمق الحقيقة, ويعتلي أمواج أسرار الكون ومضمونه, وبحكمة صخب الصمت يتواصل مع ذاته العليا؛ يتأمل البحر لا ليُفسره فقط بل ليشعر به.
يبوح البحر للشاعر بأسرار كونِيّة مقدسة في بُعد خارج الزمان والمكان, يجود البحر بما عنده من أحلام في مشهد الانبعاث والنقاء, ونداء داخلي من عمق أزمنة بعيدة المدى, مصدره حقول الذاكرة الراسية على شواطئ استرجاع النقاء الأول, يقول عبد الناصر صالح:
للبحرِ أخيلةٌ وهذا الموجُ أزرقُ
غيمةٌ غسلتْ ضفائرَها
وبحّارونَ يحتفلونَ
رائحةٌ تجيء من المدارات البعيدة.
شاطىءٌ يرنو لأغنيةٍ.
وأطفالٌ يحثّون الخُطى
في البحرِ ..
تدق أجراس الوعي الأزرق لتوقظ ما هو أبعد من الحس, فيتحول الإدراك الصوفي إلى طقس ديني متعالٍ, يبوح بالرغبة والحنين للوطن “فلسطين”, فتكتمل القصيدة وينبض ربيعها فرحًا, تتجمل الشمس وتلامس ماء البحر النديّة, وتتسارع الخُطى نحو الوطن “فلسطين” كخطوة العاشق على عجالة للوصول إلى شاطئ الحبيبة في لهفة تسبق اللقاء, واللغة تنير في ذاتها مقام الوحي, تتدفق الموسيقى في لطف يسري في الوجدان بين السماء والأرض, ولحظة ظهور الحقيقة في طريقها نحو السماء ليعلن الشاعر وعيه المقدس واندماج روحه مع اللغة, قائلًا:
أطلقُ رغبتي
وأدقّ أجراساً لها وقْعُ القداسةِ حين تأتي ..
قلبي على الشطآنِ يحرس حلمها
وربيعَ فرحتها
فتكتملُ القصيدةُ
يقفز العبقُ المخبأ في الضلوع ،
الشمسُ تلبسُ تاجها
وتفكّ قيدَ حنينها للبحر والأشجارِ
مسرعةً تمرّ كخُطوتي
لتضيءَ أجنحةَ الحروفِ وغابةَ الكلمات
مسرعةً تمرّ كلهفتي عند اللقاء
وفي ظل ذاك اللقاء المقدس نظرة تحمل الوَجد, واللغة يراعة تضيء جمر الخوف في قلب الشاعر, فالمقدس لم يعد مكانا يُزار, بل مقام داخلي يتسرب النور إليه ليكشف المعاني التي لا تُقال, وتُرفع الصلوات نحو السماء, يقول عبد الناصر صالح:
ترْمقني بنظرة وجْدها ..
وأسائل الغيمَ المكدس عن جوانحِها
فيسبقني صدى صوتي
لموعدنا الذي قد كان
أيُّ قصيدةٍ ستعيدُ موعدَها
الذي قد كان ..
أيُّ يراعةٍ ستضيء جمرَ الخوفِ والصّبوات ..
ويستدعي الشاعر ذكرياته أمام البحر من ذاكرته, ولغة مدادها نبض القلب المنسجم مع الملامح, فتصبح اللغة صلاة والمحبوبة وطنًا, فيتجاوز عبد الناصر صالح عن حالة العشق إلى ذاته وذاكرته وهُويته ووطنه “فلسطين” ولغته, ويعود الزيتون إلى عذريته الأولى لتغدو الكتابة وصالًا بين الحضور والمُطْلَق, وفي لحظة يقظة روحية يتساءل الشاعر قائلًا:
أمام البحرِ..
أذكرها
تجففُ دمعَها الملكيِّ
عائدةً إلى عذرية الزيتونِ،
كيف أردُّ نبض القلب حين يفيض رقراقاً إلى لغتي
فيأتلفُ الكلام؟
يعيد الشاعر صياغة ذاته الشعرية, فتتحول القصيدة إلى حج لغوي نحو المعنى الأسمى, يخرج صوت الذات وصولًا نحو زمن البشارة, ليدرك الشاعر نقاء النداء, والسر بات معلنًا بين سطور الحكاية, يُشكّل طقسًا فطريًا تتطهر فيه اللغة بِبِكارة المعنى متوهجًا بأصالته الأولى, يقول عبد الناصر صالح:
هوذا فضاءُ قصيدتي:
صوتي الذي يمتدّ من وجعي إلى زمنِ البشارةِ
حاملاً لغةَ البكارةِ
كلما خلعْت ظباءُ الحيّ نصْل الخوف عن وجناتها
أدركت أنك سوسنُ العمر الذي
يلتفُّ حول أصابعي
ويعيدني لبراءتي الأولى
لعشبِ صلاتي الأولى
وداليةٍ يراقصها خشوعُ الناي
كم قلتُ: وجهك مبتغاي
كم قلتُ: اكتبُ
وفي لحظة من الوعي المُلْهِم, ومن التطهير الصوفي تقف الرؤى على عتاب المعبد بين العزلة والانكشاف, ليستقيم وزن الوجود في كُلّه, ويعانق فضاء البحر طقس البحّار المقدّس, فتكتمل القصيدة أحفورة خالدة تسكن في عمق الروح, يقول الشاعر:
في البحر أخْيلةٌ
وبحارٌ يزين طقسهُ المائيّ
وامرأةٌ على شباكِ معبدها
استقامَ الوزن
واكتملتْ قصيدة.
يستمد عبد الناصر صالح إلهامه من اتساع زرقة البحر, فيصبح البحر مرآة عاكسة لأخيلة الإبداع والأصالة, تتوحد ذاته الشاعرة مع الماء والسماء, ويقيم الشاعر طقسه المقدس على ضفاف وطنه “فلسطين”, ولا يستقيم وزن الوجود إلا باسترجاع زُرقة بحر الوطن “فلسطين”, حيث يتحول الإلهام إلى قصيدة مقدسة متزنة المعنى في اتساق كوني بين الوجود والطقس وزرقة البحر.