
تحوّلات صورة القدس في الأدب الجزائريّ ، من السّياق التّاريخيّ إلى البنية الفنّيّة ، بقلم : أ.د سعاد بسناسي
تُعتبر القضيّة الفلسطينيّة، وخصوصًا القدس، محورًا أساسيًّا في الأدب الجزائريّ، حيث تجسّد ارتباطًا عميقًا بين الشّعبين الجزائريّ والفلسطينيّ. هذا الارتباط ليس مجرّد تعبير عن التّضامن، بل يعكس تاريخًا طويلًا من النّضال ضدّ الاستعمار والاحتلال، والقدس، باعتبارها مدينة ذات أهمّية دينيّة وتاريخيّة كبيرة، حظيت بمكانة خاصّة في الأدب الجزائريّ، كما هو الحال في الأدب العربيّ عامّةً. ومن ثمّة فإنّ القدس في عيون الأدب الجزائريّ ليست مجرّد مدينة، بل هي رمز للقضيّة الفلسطينيّة والنّضال ضدّ الاستعمار والظّلم، وهي تعبير عن التّضامن العربيّ والإسلاميّ مع الشّعب الفلسطينيّ. وتتجلّى أهمّية القدس في الأدب الجزائريّ من خلال تفاعل الشّعراء والكتّاب مع الأحداث التّاريخيّة المتعلّقة بفلسطين. منذ (وعد بلفور) عام 1917، بدأ الأدباء الجزائريّون في كتابة قصائد ومقالات تعبّر عن دعمهم للقضيّة الفلسطينيّة.
في الأدب الجزائريّ، غالبًا ما تظهر القدس كرمز للقضيّة الفلسطينيّة والصّراع العربيّ الإسرائيليّ. وقد استلهم الأدباء الجزائريّون من نضال الشّعب الفلسطينيّ ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ لتقديم أعمال أدبيّة تعكسُ التَّضامن والتَّعاطف مع هذه القضيّة. فالقدس تُعتبر رمزًا لنضال طويل الأمد ضدّ الظّلم، وهو شعور يتردّد صداه في الأدب الجزائريّ الذي نشأ من تجارب مقاومة الاستعمار الفرنسيّ. ومن هنا، تُعتبر القدس رمزًا للحريّة والنّضال، وقد نالت اهتمامًا خاصًّا من الشّعراء والأدباء الجزائريّين الذين اعتبروها أيقونة للقضيّة الفلسطينيّة، حيث كتبت العديد من القصائد والمقالات التي تناولت القدس كرمز للحريّة والتّاريخ والحضارة.
فالشّعب الجزائريّ عاهد نفسه أن يبقى يساند شقيقه الفلسطينيّ في قضيّته ظالمًا أو مظلومًا كما قالها الرّئيس “هواري بومدين”: (نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة). فالشّعبُ زرَع بذرةَ وفاءٍ لتنمو فوق جبين الحريّة، ونثَر العزّة وجلب الكرامة من أرض الزّيتون بوفائه إلى أرض المليون ونصف المليون شهيد، فأصبح مُتمرِّدًا بحبِّه لها، وجعل هذا الحبَّ من ضِمن عاداته وتقاليده اليوميَّة. فلولا قضيّة فلسطين لما تحرّكت الشّعوبُ بضمائرها وإنسانيّتها كما قال الدّكتور والشّاعر الجزائريّ (صلاح الدّين باوية) في سياق هذا الموضوع، أنَّ “جدوى الأدب العربيّ تكْمنُ في تحريك ضمير الأمّة العربيّة وإعادتها إلى إنسانيّتها).
ويبقى الأدبُ خيْرَ دليلٍ في ذاكرة لا تموت ولن تُمحى من العقول، فلا قيمة للأدب الذي لا يناصر القضيّة الفلسطينيّة سواء بالفلسفة أم بالتّاريخ أم بالشّعر، أو بالرَّسم فرِيشة الفنان أيضًا تلعب دورًا هامًّا وأساسيَّا في إيصال مضمون الرّسالة. أمّا الكاريكاتير فحدّث ولا حرج.. فدعم القضيّة الفلسطينيّة ليس بالسّلاح والمال فقط، بل هناك كلام أقوى من السّلاح.
وليست القدس في الأدب الجزائريّ، مجرّد مدينة أو رمز للقضيّة الفلسطينيّة، بل هي فكرة تمتزج فيها معاني النّضال، المقاومة، الهويّة، والدّين. الأدباء الجزائريّون استلهموا من قضيّة القدس الكثير من إبداعاتهم للتّعبير عن آمالهم وتطلّعاتهم لأمّة عربيّة متّحدّة وقويّة، قادرة على مواجهة الاستعمار والظّلم بكلّ أشكاله.
القدس في الشّعر الجزائريّ:
تناولَ العديدُ من الشّعراء الجزائريّين القدس في قصائدهم، سواء بشكل مباشر أم رمزيّ. على سبيل المثال، الشّاعر (مفدي زكريا)، شاعر الثّورة الجزائريّة، ألقى الضّوء على القدس وفلسطين في العديد من قصائده التي تُمجّد المقاومة وتحثّ على النّضال. في قصيدة من قصائده يصف القدس بأنّها (جرح العرب) الذي لن يندمل إلاّ بتحريرها.
وقد قدَّم الشّعراء الجزائريّون مثل مفدي زكريا وأبو القاسم خمّار وغيرهم العديد من القصائد التي تمجّد القدس وتدعو لتحريرها. على سبيل المثال، في قصائد مفدي زكريا، رمز المقاومة الجزائريّة، نرى القدس تُعامل كرمز للكرامة والشّرف العربيّ والإسلاميّ. القصائد عادةً ما تعبّر عن الحزن والمرارة تجاه احتلال القدس، كما تبرز الأمل والإصرار على تحريرها.
ونجدُ أبو القاسم سعد الله في قصيدته “القدس” قد أظهر ارتباط الجزائريّين العاطفيّ والوجدانيّ مع المدينة المقدّسة، من خلال تصويره لمعاناة الشّعب الفلسطينيّ وتحدّيهم للاحتلال.
ولعلَّ قسوة الجرح الفلسطينيّ وفداحة النّكبة كانَا من وراء حرارة النّغم الذي شدا بشاعر الثّورة الجزائريّة مفدي زكريا وهو يتغنّى بنداء جيّاش موجع يثير كلّ المواجد: في حقّ فلسطين، حين قال:
أناديكِ في الصّـرصر العاتيهْ— وبين قواصـفـهـا الذّاريــه
وأدعـوكِ بين أزيز الوغـــى — وبين جمـاجمهـا الجـاثيــه
فلسطينُ… يامهبـط الأنـبـيـآ—– ويا قبلـة العـرب الثّانـيــه
ويـــا حجّـة الله فـي أرضــه —- ويا هبة الأزل، السّاميـــه
ويــا قــدُســاً، بــاعــــهُ آدم—— كما بـاع جنّتــه العاليـــــه
وأضحى ابنه – بين إخوانه —– يلقـّبــه العرْبُ ، بالجـاليـه
فلسطينُ، والعُـرب في سكرة —- قد انحـدروا بك للهـاويــه
رمــاكِ الزّمـان بكـلّ لئيـــمٍ—— زنيــمٍ، من الفئة الباغيــه
وكـلّ شريـد على ظهــرهـا —– تسخـّــره، بطنه الخاويــه
وألقــى بكِ الدهــر شُــذّاذه—— ومن لم تؤدِّبْـهُ ” ألمـانيه”
وصبَّ بكِ الغـَرب أقــذاره—— ورجسَ نفـاياتـــه الباقيــه
وحطّ ابنُ صهيونَ – أنذالـه—– بأرضكِ، آمِـرةً نـاهيـــــه
ومـن ليس يهتزُّ فيه ضمير—— ولا في حوانيـهِ إنسانيــــه
وبالمال تغدقه الصّدقات—– مضت فيـك بائعـة شاريـه
ودسّ – ابن خريون- أوساخه—- فعجّـلَ – من نتنهـا- الغاشيـه
بكيتِ فلسطينُ في حائط—– به – قبل – قد كانتِ الباكيـه
فيـالكَ مـن معبـد نجـسّــوا—— حناياه بالسّــوءة البـاديــــه
ويالـك من قِـبــلة كدّســوا —— بمحرابـها الجيَـف الباليـه
ويالكَ مـن حَـــرم آمِــــنٍ —— جياع ابن آوى به عــاويه
إضافةً إلى ذلك، تناول أدباء كثر مثل (محمّد العيد آل خليفة)”
فلسطين العزيزة لا تراعي …… فعين الله راصدة تراعي وحولك من بنى عدنان جند …… كثير العد يزأر كالسّباع
اذا استصرخته للحرب لبى …… وخفّ إليك من كلّ البقاع يجود بكلّ مرتخص وغالي …… ليدفع عنك غارات الضّباع
بليت بهم صهاينة جيّاعا …… فسحقا للصّهاينة الجياع ستكشف عنهم الهيجاء سترا …… وترميهم بكلّ فتى شجاع
وكيف يصادف العبريّ نجحا …… وما أخلاقه غير الخداع قد اشتهر اليهود بكلّ قطر …… بأنّ طباعهم شرّ الطّباع
قد اغترّ اليهود بما أصابوا …… بأرض القدس من بعض القلاع متى كان اليهود جنود حرب …… وكفؤ الأعارب في الصّراع
فلسطين العزيزة لا تخافي …… فإنّ العرب هبّوا للدّفاع بجيش مظلم كاللّيل غطّى …… حيّالك كلّ سهل أو يفاع
وما أسيافه إلاّ نجوم …… رجوم لليهود بلا نزاع يرابط في ثغورك مستعدّا …… على الأهبات للأمر المطاع
سيهجم من مراكزه عليهم …… هجوم الاكلين على القصاع ويتركهم على الغبراء صرعى …… وما أنصارهم غير النّواعي
وتمثّل القدس في الرّواية الجزائريّة، أيضًا مشهدًا للصّراع الأوسع بين الاحتلال والتّحرّر. وقد تحدّث الكاتب الجزائريّ الكبير (رشيد بوجدرة) في بعض من رواياته عن القضيّة الفلسطينيّة من خلال الحديث عن نضال الشّعب الفلسطينيّ وتضحيّاته، حيث يتمّ تصوير القدس كجزء من روح هذا النّضال. كما أنّ (واسيني الأعرج) قد تطرّق إلى القدس بشكل رمزيّ في بعض أعماله.
وقد نظمت مؤسّسات ثقافيّة جزائريّة الكثير من النّشاطات عن فلسطين الجريحة كما تحدّث (واسيني الأعرج) خلال زيارته لفلسطين بدعوة من مؤسّسة (محمود درويش)، فبغضّ النّظر عن الخوف الذي تملّكه وهو يقبل الدّعوة الرّسميّة التي وجّهت له من طرف دولة فلسطين ودعم قنصل فرنسا بالقدس آنذاك، المتعاطف مع القضيّة الفلسطينيّة، مشيرًا إلى أنّه اختار المرور عبر المعابر الأمنيّة، وتابع واسيني باستعراض أهمّ ما جاء في روايته (سوناتا لأشباح القدس)، موضّحًا أنّ الأدب يمنح فرصة للحياة.
ومن جهته، ربط الرّوائيّ (محمّد ساري) بين ما حدث في الثّورة الجزائريّة وما حدث ويحدث من إبادة في فلسطين، وتوقّف عند روايته (نيران وادي عيزر) حيث عاد إلى طفولته التّعيسة بقريته الرّيفيّة إبَّان الثَّورة وتهجيره وعائلته منها من طرف المستعمر الفرنسيّ الذي حاول قطع العلاقة بين السّكّان والمجاهدين، مقدّما وجه الشّبه بين المقاومتين وقال: “نحن الجزائرييّن لدينا تاريخ يسمح لنا بإدراك طبيعة المقاومة الفلسطينيّة ونتضامن معها بكثير من الحزن”.
أمّا الرّوائيّ (عزّ الدّين جلاوجي) فأشار إلى أنّ السّرديّة بين الجزائر وفلسطين لها عاملان، سرد الواقع والسّرد التّخيّليّ، وقال إنّ الشّعب الجزائريّ له علاقة وطيدة مع فلسطين ويتجلّى ذلك في شخص (أبو شعيب الأنصاريّ) الذي له الوقفات الجبّارة في الدّفاع عن فلسطين وأسّس ما يسمّى بباب المغاربة وأثار وقفه لا يزال موجودًا. إلى جانب الشّيخ (البشير الإبراهيميّ) الذي تحدّث عن تضحيّات الجزائريّين دفاعًا عن فلسطين، وما حمله (مفدي زكريا) في ديوانه (اللّهب المقدّس) من قصيدة لفلسطين، كما استحضر العديد من الجزائرييّن الذين قدّموا أنفسهم كمقاومين في فلسطين والتحقوا بالحركة الشّعبيّة لتحرير فلسطين مثل بوشحيط، ومحمّد بوديّة وغيرهم ممّن تخلّوا عن مقاعد الدّراسة في سوريا والتحقوا بالكفاح المسلّح من أجل فلسطين.
كما عبّر بعض الأدباء الجزائرييّن عن مشاعرهم الشّخصيّة تجاه القدس، حيث يرون في نضال الفلسطينييّن صدى لنضال الجزائر ضدّ الاستعمار الفرنسيّ. إذ القدس بالنّسبة لهؤلاء ليست فقط قضيّة فلسطينيّة، بل هي جزء من الوعي الجماعيّ العربيّ والإسلاميّ، وجزء من ذاكرتهم الشّخصيّة والجماعيّة، ورمز للوحدة العربيّة، وغالبًا ما كان الكتّاب والشّعراء الجزائريّون يربطون بين معاناة القدس وتفكّك الصّف العربيّ، ممّا يجعل المدينة رمزًا للحاجة إلى الوحدة والتّضامن بين الدّول العربيّة من أجل مواجهة التّحدّيات المشتركة.
تعتبر القدس رمزًا مهمًّا في الأدب الجزائريّ، حيث تمثّل جزءًا أساسيًّا من الهويّة الوطنيّة والقوميّة، وتُعبّر عن مشاعر التّضامن مع القضيّة الفلسطينيّة. منذ بداية القرن العشرين، كان للقدس حضور بارز في شعر ونثر الأدباء الجزائرييّن، الذين أبدعوا في التّعبير عن آلام ومعاناة الشّعب الفلسطينيّ.
الأبعاد الإنسانيّة والسّياسيّة في الأدب الجزائريّ عن القدس
يمتاز الخطاب الأدبيّ الجزائريّ بالتّنوّع، حيث يجمع بين الأبعاد الإنسانيّة والسّياسيّة. يعكس الشّعر الجزائريّ المعاصر روح المقاومة والتّضامن مع الشّعب الفلسطينيّ. وقد أظهر الشّعراء الجزائريّون التزامهم بقضايا الأمّة العربيّة، مؤكّدين على أنّ تحرير فلسطين هو جزء من تحرير الجزائر نفسها، حيث لا يزال الأدب الجزائريّ يعكس قضايا فلسطين بشكل مستمرّ. فالشّعراء المعاصرون يواصلون كتابة قصائد تعبّر عن الألم والأمل، ممّا يجعل القضيّة الفلسطينيّة جزءًا لا يتجزّأ من الهويّة الثّقافيّة الجزائريّة. يعتبر هذا الارتباط القويّ بالقدس تجسيدًا لرغبة الجزائر في دعم حقوق الفلسطينييّن ومقاومتهم ضدّ الاحتلال.
كما تتجلّى الأبعاد الإنسانيّة والسّياسيّة في الأدب الجزائريّ المعاصر من خلال تناول قضيّة القدس وفلسطين، حيث يبرز هذا الأدب كوسيلة للتّعبير عن مشاعر التّضامن والنّضال ضدّ الاحتلال. تتداخل هذه الأبعاد لتشكّل خطابًا أدبيًّا يعكسُ التزام الجزائر التّاريخيّ بالقضيّة الفلسطينيّة. من خلال العاطف مع معاناة الفلسطينييّن سواء في الشّعر أم النّثر، تجسيدًا للمعاناة الإنسانيّة التي يعيشها الشّعب الفلسطينيّ. يتناول الكتَّاب الجزائريّون قصص النّضال والألم، ممّا يعكس ارتباطهم العميق بمعاناة الفلسطينييّن.
في الختام، يمكن القول إنّ القدس ليست مجرّد مكان جغرافيّ بالنّسبة للأدباء الجزائرييّن، بل هي رمز حيّ للحريّة والنّضال، حيث تتجلّى فيها القيم الإنسانيّة والوطنيّة التي تجمع الشّعبين الجزائريّ والفلسطينيّ.
- – أ.د سعاد بسناسي – جامعة وهران 1 – عضو المجلس الأعلى للّغة العربيّة الجزائر