
طولكرم ، قلبٌ يمشي ، بقلم : محمد علوش
طولكرم، ليست جغرافيا، بل بيانٌ أوّل في سفر الصبر، ومقطع من نشيد لم ينتهِ بعد.
كان النهار لا يزال على عتبة الفجر حين وطئت أرض طولكرم. الهواء هنا لا يُشبه أي هواءٍ آخر؛ فيه رائحة التراب المتخم بالبطولة، ونفَس الجبل الصامد، وتنهيدة امرأة ما زالت تنتظر من عادوا على هيئة صورة مؤطرة في صدر الغرفة.
أول ما يأسرك في هذه المدينة، ليس مبانيها ولا طرقها، بل صمتها، ذلك الصمت العميق الذي يشبه صلاةً قديمة، تردّدها الحجارة ولا تُنسى.
في طولكرم، لا تمطر السماء ماءً فقط، بل تسرد حكايات، وتحيي ذاكرة محاها النسيان من المدن الأخرى.
دخلت من الجهة الغربية، حيث ينهض الجدار العازل مثل كابوسٍ أسمنتيّ، يسرق من المدينة طرفها المفتوح على فلسطين الكبرى، لكنه، رغم قسوته، يبدو غريباً، كشيء دخيل على المكان، فطولكرم، المدينة الجبلية التي كانت دائماً عَتَبةً بين السهل والسيف، تأبى أن تنحني للجدران، رأيت طفلاً يرسم عليه وجه فلسطين، وامرأة تعلق خيطاً من الورد المجفف على حافته، رموز بسيطة، لكنها تكسر هيبة الصخر وترعب الاحتلال.
في البلدة القديمة، تتداخل الأزقّة مثل خيوط ذاكرة مترامية، كل حجر فيها يحفظ قصة، وكل شرفة كانت ذات يوم مرصداً أو مأوى، هناك بيت قديم، مهجور ظاهرياً، لكن عندما اقتربت منه، شعرت أن أنفاس أهله ما زالت تسكنه.
في طولكرم، لا تموت البيوت، بل تنام في انتظار من يوقظها.
مررت بأسوق المدينة حيث العمر يقاس بصوت البائعين، أحدهم ينادي على الزعتر البلدي كما لو كان ينادي على أرواح الشهداء.
امرأة تساوم على كيلو بندورة، وخلفها تقف ابنتها تكتب شيئاً على دفتر مدرسي: نحن شعبٌ لا يهزم.
هنا، الحياة ليست عادة يومية، بل فعل مقاومة، مجرد شراء الخبز، عبور الشارع، الذهاب إلى المدرسة، كلها أشكال من البقاء المتحدي.
واصلت طريقي نحو “خضوري”، الجامعة التي لا تشبه الجامعات، فخضوري ليست فقط مؤسسة أكاديمية، بل هي جبهة من جبهات الوعي، تأسست في عهد الانتداب، ونضجت تحت الاحتلال، واليوم تمثل رمزاً للتجذر في الأرض، رأيت الطلبة يتنقّلون بين المباني، يحملون في أعينهم بريق المعرفة، وفي حقائبهم قصائد سياسية، وكوفيات منسوجة على مهل، وعلى إحدى الجدران كُتب: نحن نزرع القمح والموقف.
ومن هناك، إلى مخيّم طولكرم، التجسيد النقي للنكبة التي لم تنتهِ بعد، وفي المخيم، لا يحتاج الناس إلى خرائط؛ كل زقاق يحفظ اسم شهيد، وكل باب حفر الزمن عليه توقيعاً من الحنين.
طفلةٌ تُلوّن على الحائط شجرة زيتون، وتقول لي بفخر: “هاي رسمتها عشان ترجع ستي على يافا”.
في لحظةٍ ما، شعرت أن المخيم ليس مكاناً، بل كائن حيّ يتنفس الأمل، ويُدرّس معنى البقاء.
جلست لاحقاً في مقهى شعبي، قرب دوّار جمال عبد الناصر، حيث يتجمع الكهول لقراءة الصحف، ولعن الواقع، واسترجاع المعارك، واحدٌ منهم قال لي: “يا ابني، طولكرم مش بس مدينة، هاي بوابة الغرب، بطن السهل، رئة الوطن، وهامة الجبل، اللي ما مرّ من هون، ما شاف فلسطين على حقيقتها”.
في المساء، صعدت إلى عنبتا المطلة على المدينة، وهناك، بان لي المشهد كاملاً، مدينة محاصرة من كل الجهات، لكنها مفتوحة من الداخل على شيء لا يقاس: الكرامة، وكانت الأضواء تتلألأ كما لو أنها نجوم نزلت إلى الأرض، وكان النسيم يحمل أنيناً قديماً يشبه نشيداً ثورياً غُني في جنازة شهيد، كل شيء فيها يغني، حتى الصمت.
وأدركت حينها، أن طولكرم ليست مدينة تمرّ بها، بل مدينة تمرّ بك، تترك فيك شيئاً لا يشبه أي شيء، شيءٌ يُقاوم معك، ينام فيك، ويوقظك كلما أوشكت أن تنسى من أنت.