11:57 صباحًا / 3 يوليو، 2025
آخر الاخبار

حين يصبح الزواج تحديًا: معاناة شباب محافظة سلفيت في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ، بقلم د. عمر السلخي

عمر السلخي

حين يصبح الزواج تحديًا: معاناة شباب محافظة سلفيت في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ، بقلم د. عمر السلخي


في ظل تصاعد الأزمات السياسية والاقتصادية التي يرزح تحتها المجتمع الفلسطيني، لا سيما في المناطق المصنفة (ج) والمهددة بالاستيطان والمصادرة، باتت قضية الزواج تأخذ طابعًا مركبًا، يتجاوز البعد الاجتماعي والوجداني ليغدو مرآة دقيقة تعكس اختلالات بنيوية عميقة في الاقتصاد والمجتمع والثقافة. وتُعد محافظة سلفيت نموذجًا صارخًا لهذه الإشكالية، إذ يعيش فيها الشباب بين تطلعاتهم الطبيعية نحو بناء مستقبل واستقرار عائلي، وبين واقع مرير تهيمن عليه البطالة، والفقر، والتهميش، وارتفاع تكاليف المعيشة تحت ضغط الاحتلال الإسرائيلي.

تطلعات مشروعة وواقع مقيد


لطالما شكّل الزواج في المجتمع الفلسطيني أحد أهم مؤشرات الاستقرار والبلوغ الاجتماعي، ووسيلة لتعزيز الروابط العائلية والنسيج المجتمعي. في محافظة سلفيت، حيث تُعرف العائلات بقيمها العريقة وتماسكها الاجتماعي، يحتل الزواج مكانة خاصة في الوعي الجمعي، فهو لا يُعتبر مجرد علاقة بين شابين، بل هو مشروع اجتماعي تُبنى عليه وحدة العائلة وامتدادها.

إلا أن الواقع الاقتصادي يفرض سطوته على هذه التطلعات. يقول الشاب أحمد (29 عامًا) من بلدة بديا:
“أعمل منذ أكثر من خمس سنوات في أحد المصانع داخل الخط الأخضر، ورغم الدوام الطويل، بالكاد أستطيع توفير نفقات الحياة اليومية. حلم الزواج يبتعد مع كل شهر جديد، والأسعار في ارتفاع مستمر، خاصة في الذهب والإيجارات والمفروشات.”

سلفيت تحت حصار مزدوج – الاحتلال والركود


تقع محافظة سلفيت في قلب الضفة الغربية، لكنها تُعد من أكثر المحافظات استهدافًا من قبل المشروع الاستيطاني الإسرائيلي. تحاصرها المستوطنات من كل الاتجاهات، وعلى رأسها مستوطنة “أريئيل”، التي ابتلعت آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية التي كانت تمثل مصدر رزق رئيسي لكثير من العائلات.

هذا الواقع جعل الكثير من الشباب عاطلين عن العمل، أو يعملون بأجور زهيدة دون ضمانات، أو يسعون للهجرة المؤقتة للعمل داخل الخط الأخضر في ظروف قاسية. وتقول السيدة أم ناصر، والدة أحد العرسان من كفر الديك:
“نحلم أن نفرح بابننا كما فرحنا بأخيه الأكبر قبل عشر سنوات، لكن الأمور تغيرت كثيرًا. في السابق كان البيت والزواج ممكنًا من دخل عادي، اليوم حتى بدل الإيجار وحده يُرهق العائلة.”

وتوافقها أم العروس، السيدة أم فراس، من بلدة سلفيت:


“أشعر بالحزن على ابنتي. الشاب محترم وجاد، لكنهم يؤجلون الزواج عامًا بعد عام بسبب عدم القدرة على تأمين مستلزمات الحياة الأساسية. كنا ننتظر الفرح، والآن نعدّ الأيام بقلق بدل الفرح.”

العادات الاجتماعية… من الأصالة إلى العبء


رغم أن المجتمع السلفيتي معروف بتقاليده الراسخة، إلا أن بعض الممارسات المرتبطة بالزواج تحولت إلى عبء نفسي ومادي. حفلات الزفاف الكبيرة، والمهر المرتفع، وقائمة الهدايا، كلها باتت تُثقل كاهل العريس وعائلته، حتى إن بعض الشبان يتخلون عن فكرة الزواج أو يؤجلونه لسنوات.

الشاب يوسف من قرية فرخة، يقول:


“الناس ما زالوا يقيسون الفرح بالعدد والمظاهر، رغم الظروف الصعبة. طلبوا مني في الخطبة شراء ذهب بوزن معين، وإقامة حفلة لأكثر من 500 شخص، وأنا لا أملك إلا راتبًا من عمل جزئي.”

وهنا يتقاطع البعد الاقتصادي مع البعد الثقافي، حيث تتحول بعض التقاليد إلى عوامل طاردة للزواج، بدل أن تكون عوامل تعزيز وتسهيل.

مبادرات مجتمعية خجولة لكنها واعدة


في مواجهة هذا الواقع، ظهرت مبادرات شبابية ومجتمعية متفرقة في بعض قرى محافظة سلفيت، تهدف إلى التخفيف من تكاليف الزواج وتشجيع الأسر على تقليل الطلبات. من هذه المبادرات، الغاء مظاهر الحفلات والغداء والعشاء واقتصار الحفل على ساعتين في صاله مغلقه، أو عقد اتفاقيات مجتمعية غير ملزمة لتقنين المهر وعدم المبالغة في الحفلات.

وتقول السيدة نهى من دير استيا:


“بدأنا نقاشًا مجتمعيًا مع الأهالي، وشجعنا على حفلات صغيرة داخل البيوت أو القاعات المجتمعية، دون كماليات. نجحنا في إقناع ثلاث عائلات في البلدة بهذا التوجه، ونأمل أن تتحول هذه التجربة إلى ثقافة عامة.”


نحو نموذج زواج فلسطيني مقاوم ومستدام


في ظل الاحتلال والضغوط الاقتصادية، يصبح من الضروري إعادة تعريف الزواج كممارسة مقاومة، قائمة على الصمود والتكافل، وليس على الاستعراض والمظاهر. فمفهوم “الزواج المقاوم” لا يعني فقط التحدي المادي، بل أيضًا تحدي الثقافة الاستهلاكية التي تفرض نفسها على المجتمع رغم فقره.

من هنا، فإن الحل لا يكمن فقط في دعم العرسان ماديًا، بل أيضًا في إعادة صياغة خطاب اجتماعي جديد، ينطلق من التبسيط، والواقعية، والتضامن المجتمعي، وتشجيع الأسر على خفض سقف التوقعات، وتقدير النية والصدق أكثر من الذهب والديكور.

الزواج حق… والصمود مسؤولية جماعية


إن الزواج في محافظة سلفيت اليوم هو اختبار لمدى صلابة النسيج الاجتماعي الفلسطيني، ولمدى قدرتنا على مواجهة الاحتلال ليس فقط بالمقاومة المباشرة، بل ببناء حياة مستمرة في قلب الحصار. وعلى المجتمع المحلي، والبلديات، والمؤسسات الأهلية، والسلطة الفلسطينية أن تضع هذه القضية ضمن أولوياتها: عبر تقديم تسهيلات، وقروض ميسرة، ومشاريع إسكان شبابية، وتحفيز الإنتاج المحلي لخفض التكاليف، وتعميم الوعي بأن الزواج حق إنساني وأساس لبقاء المجتمع.

في محافظة سلفيت، كما في فلسطين كلها، الزواج ليس مجرد احتفال… بل إعلان وجود واستمرار رغم كل القهر.

شاهد أيضاً

الجمعية الوطنية للتأهيل تواصل تقديم خدمات العلاج الطبيعي والتمريض مجانًا في غزة

الجمعية الوطنية للتأهيل تواصل تقديم خدمات العلاج الطبيعي والتمريض مجانًا في غزة

شفا – في ظل الظروف الإنسانية القاسية التي يشهدها قطاع غزة، تواصل الجمعية الوطنية للتأهيل …