
التعليم في فلسطين ، رسالة الأمل وصوت الهوية في زمن التحديات ، بقلم : د. سارة محمد الشماس
في ظلّ المشهد الفلسطيني المعقّد الذي تتقاطع فيه السياسة بالمعاناة اليومية، تظل المدرسة الفلسطينية صرحًا شامخًا في وجه العاصفة، ويظل المعلم الفلسطيني رمزًا للصمود والإيمان العميق برسالة التعليم كأداة للتحرير الثقافي والوطني. إن التعليم في فلسطين لا ينفصل عن مشروع التحرر الوطني، بل يُعد أحد أعمدته الأساسية، حيث تُبنى العقول المقاومة وتُصاغ الهويات الراسخة.
المعلم الفلسطيني وتعزيز الهوية الوطنية
في ظل محاولات الاحتلال الإسرائيلي طمس الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه، يأتي دور معلم الدراسات الاجتماعية كخط دفاع أول في معركة الوعي. فهو لا يكتفي بنقل المعلومات من الكتب، بل يحرص على تقديم سرد تاريخي قائم على الحقائق والوثائق الموثقة، يؤكد الأحقية الوطنية في الأرض والمقدسات والهوية. إن تعليم النكبة، واتفاقيات التقسيم، ومسيرة النضال الفلسطيني، بما فيها الانتفاضات المتعاقبة واتفاق أوسلو، يشكّل جهدًا مقاومًا في ذاته، يستهدف تحصين الأجيال الجديدة ضد محاولات الإنكار والتزييف. ولعلّ أحد أبرز جوانب هذا الدور يتمثّل في ربط الطالب الفلسطيني بأرضه، من خلال تدريس أسماء القرى المهجّرة، والمقدسات الإسلامية والمسيحية، والمعالم الجغرافية التي تمثّل عمق الانتماء الوطني. فالمعلم هنا ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل حارس للهوية وأمين على التاريخ والحقوق الثابتة.
التحديات البنيوية والتعليم في ظروف الحرب والحصار
تُظهر الإحصاءات الصادرة عن وزارة التربية والتعليم الفلسطينية ومنظمات دولية مثل اليونيسف والأونروا، حجم الكارثة التي تلحق بالقطاع التعليمي نتيجة العدوان الإسرائيلي المستمر. ففي غزة وحدها، ومنذ عدوان 2023، تم تدمير أكثر من 280 منشأة تعليمية بشكل كلي أو جزئي، وتوقّف التعليم في كثير من المناطق لشهور متتالية. كما تعاني الضفة الغربية من سياسات الاحتلال المتعلقة بإغلاق المدارس، ومصادرة الأراضي، والاعتداء على المعلمين والطلبة، خاصة في المناطق المصنّفة (ج) والمناطق المحاذية للمستوطنات. ورغم هذه التحديات، يواصل المعلمون— وخاصة معلمو الدراسات الاجتماعية— أداء رسالتهم التربوية والتوعوية، باستخدام وسائل بديلة لتجاوز الإغلاقات والرقابة، بما في ذلك التعليم الإلكتروني، والمدارس المجتمعية، وحلقات التثقيف الشعبي.
التعليم كفعل مقاوم واستراتيجية تحرر
يرتبط التعليم في فلسطين بالمقاومة الثقافية، وهو ما أكّدت عليه الاستراتيجية الوطنية للتعليم، التي تعتبر التعليم ركيزة لبناء الدولة. ويحرص معلم الدراسات الاجتماعية على غرس مفاهيم العدالة، وحق تقرير المصير، والحقوق الوطنية الثابتة، مستندًا إلى المواثيق الدولية مثل اتفاقية جنيف الرابعة وإعلان حقوق الإنسان، التي تؤكد على حماية التعليم في أوقات النزاع. كما يتم توظيف المناسبات الوطنية في المنظومة التربوية، مثل يوم الأرض، ويوم النكبة، كفرص لتعزيز الوعي الوطني لدى الطلبة، وربطهم بقضيتهم في سياقها التاريخي والقانوني الصحيح.
دعم الصحة النفسية وبناء المرونة لدى الطلبة
تُظهر الدراسات النفسية أن الصدمات الناتجة عن الاحتلال والعنف تؤثر بعمق على نفسية الأطفال الفلسطينيين. وهنا يظهر دور المعلم، لا سيما معلم الدراسات الاجتماعية، في تقديم الدعم النفسي غير الرسمي، وتعزيز القدرة على التكيّف، وتمكين الطلبة من تجاوز آثار الحرب وفقدان الأمن .ويشارك كثير من المعلمين الفلسطينيين في برامج وطنية ودولية تهدف إلى تدريبهم على تقنيات الإرشاد النفسي التربوي، وهو ما يضاعف من قيمة حضورهم في المدرسة، ليس فقط كمربين، بل كدعامات للصمود النفسي الجماعي.
التعليم والتنشئة والمواطنة
يسهم معلمو الدراسات الاجتماعية في تنمية وعي الطلبة بحقوقهم، وفي تعزيز قدرتهم على فهم الواقع والمشاركة في تغييره. ويُدمج في المناهج مفاهيم مثل العدالة الاجتماعية، والحرية، وحق العودة، والهوية الوطنية، ما يجعل التعليم منصة لتكوين جيل واعٍ بمسؤولياته الوطنية. وتُجرى في المدارس أنشطة مرافقة للمنهج، مثل برلمانات طلابية، ونقاشات مجتمعية، وأبحاث ميدانية، تعزز من مهارات التحليل والمبادرة والقيادة.
نحو تمكين المعلم الفلسطيني وتعزيز رسالته
إن الحفاظ على التعليم في فلسطين يعني حماية الذاكرة والهوية والحق في الأرض. ومعلم الدراسات الاجتماعية في قلب هذه المهمة النبيلة، إذ يُسهم في إعداد جيل جديد لا يكتفي بفهم الواقع، بل يسعى لتغييره. هو معلّم مقاوم بالفكر، وصامد بالفعل، وفاعل في صناعة المستقبل الفلسطيني. وفي كل عام دراسي، نرفع التحية لكل معلم فلسطيني، ونخصّ معلمي الدراسات الاجتماعية بالتقدير، فهم الأمناء على التاريخ، والمرشدون نحو التحرير، وبناة الأمل في عقول الأجيال الصاعدة. فالتعليم في فلسطين ليس مجرد حق، بل هو واجب ورسالة، وهو الجسر الحقيقي نحو حرية الإنسان والوطن.