
باجس أبو عطوان … ملك الجبل ونار الثورة التي لا تنطفئ ، بقلم : المهندس غسان جابر
“أتظن أنك قد طمست هويتي؟
ومحوت تاريخي ومعتقداتي؟
عبثًا تحاول… لا فناء لثائر
أنا كالقيامة ذات يوم آت”
بهذه الأبيات الثائرة التي كتبها الشاعر السعودي مهذل الصقور، نُحيي سيرة رجلٍ جعل من ذاته تجسيدًا حيًا لمعنى الفدائي الفلسطيني؛ رجلٌ لم يكن مجرد مقاومٍ يحمل بندقية في وجه الاحتلال، بل كان أيقونة وطنية اختزلت شجاعة الجبال، وصلابة الأرض، ونقاء الهدف.
ولد باجس أبو عطوان (أبو شنار) عام 1950 في بلدة دورا – خربة الطبقة جنوب الخليل، في عائلة فلسطينية جبلية صلبة، عرفت النضال وعرفت الصبر. في تلك البيئة الريفية، حيث الأرض معلمة وحامية، تشكل وعيه الوطني باكرًا، لينضم لاحقًا إلى صفوف الثورة الفلسطينية.
ملك الجبل… الذي أرعب الاحتلال
لُقّب باجس بـ”ملك الجبل ليس فقط لشجاعته القتالية، بل لأنه أعاد تعريف الجغرافيا الفلسطينية كساحة للمقاومة. حمل سلاحه وجال جبال الخليل وسهولها وكهوفها، معلنًا التمرد على الاحتلال. خاض معارك بطولية عدة، أبرزها معركة بيت جبرين، التي جُرح فيها، ثم انسحب منها رافضًا أن يُثقل على رفاقه. كما عُرف بقدرته على المناورة العسكرية والكرّ والفرّ في الجبال، إذ كان يتحرك بحرية ودهاء جعلت من مطاردته كابوسًا للاحتلال الإسرائيلي.
وكان الاحتلال قد هدم منزله مرتين، ضمن سياسة الانتقام الجماعي التي تمارسها سلطات الاحتلال. لكن بيت باجس كان عامرًا دومًا بالروح الثورية، فقد لعبت شقيقاته دورًا بطوليًا في إخفاءه ومقاومة الاقتحامات، وحملن وصايا الفدائي رغم القمع والترهيب.
السخرية من الاحتلال: سلاح آخر في المعركة
لم يكن باجس ثائرًا صامتًا، بل كانت سخريته من الاحتلال أداة مقاومة نفسية. في إحدى المرات، كما ورد في رواية “مات البطل… عاش البطل” للمناضل والكاتب معين بسيسو، كتب باجس بخط يده في أحد المواقع المهجورة بعد انسحاب المقاتلين:
“أنا باجس… إن عدت ولم تجدوني، فقد ذهبت إلى بيت جبرين لأصطاد ضباطكم”.
ضحكًا وسخرية، كان يواجه آلة الموت الإسرائيلية، متحديًا ملاحقته، كأنما يقول: “أنا لا أهرب… أنا أختار ساحة المواجهة”.
أخلاق الثورة: لا للمساس بالمدنيين
رغم عنف المواجهة، حافظ باجس على أخلاقيات العمل الفدائي، فكان حريصًا على ألا تُمس ممتلكات المدنيين، وألا يُساء لأهله أو أبناء بلده. تروي شهادات معاصريه أنه كان يرفض استخدام البيوت كدروع أو ملاجئ دون إذن أصحابها، وكان شديد الالتزام بتعليمات الثورة حول احترام المدنيين وكرامتهم، ليكون بذلك قدوة في الوطنية والمبادئ.
استشهاده وميراثه الخالد
استُشهد باجس أبو عطوان في 18 حزيران/يونيو 1974 في معركة عنيفة مع جيش الاحتلال، بعد أن قاتل حتى الطلقة الأخيرة. خمسون عامًا مضت، وفي إحدى مغارات جبل الخليل، تم العثور على مقتنياته الشخصية: سلاحه، قميصه، بقايا كوفيته، ورسالة ثورية كتبها بخط يده. هذه المقتنيات لم تكن مجرد أشياء، بل شهادات تاريخية حيّة على حضور رجل لم يمت، بل بقي عنوانًا لكل مناضل.
أثره في وجدان الشعب
لا تزال صورة باجس تسكن الذاكرة الوطنية الفلسطينية، ليس فقط كرمز للمقاومة المسلحة، بل كوجهٍ من وجوه الكرامة والهوية. لقد جسّد في حياته التحول من اللاجئ المهزوم بعد نكبة 1948 إلى الفدائي الشجاع الذي يُقاتل من أجل العودة والتحرير. وهذه الصورة ألهمت أجيالًا من الشباب الذين وجدوا فيه المعنى الحقيقي للثورة والانتماء.
مات البطل… عاش البطل
في زمنٍ تكاثفت فيه الحروب النفسية ومحاولات التذويب، يعود اسم باجس أبو عطوان ليذكرنا بأن الروح الفدائية لا تموت، وأن الجبال التي أنجبته ما زالت تنطق باسمه. كان باجس من الأخاديد، لكنه صار منارةً في جبين الأمة. فكما قال معين بسيسو:
“مات البطل… عاش البطل… لأن البطولة لا تموت، بل تتجسد في كل من حمل البندقية والكرامة”.
م. غسان جابر (القيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية)