
الإنسان هو الكلمة ، ومجدُه في صدقها ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في محراب الكلمة، حيث لا مكان للزيف، وقفت الأرواح خاشعة، والقلوب واجفة، والضمائر بين يقظةٍ وانكسار. هناك، حيث لا صوت يعلو فوق نداء الحق، استوقفني ذاك الحوار الذي فاحت منه رائحة الخلود بين الحسين بن عليّ، سبط النبيّ، والوليد بن عتبة، صوت السلطان الذاوي.
يا لها من لحظة… كأن الزمان توقف ليستمع، وكأن التاريخ أمسك قلمه ليكتب بأحرفٍ من نور موقفاً لا يُشترى، ولا يُباع، ولا يُنسى. قالوا له: “قل كلمة واذهب بسلام!”، فبدت الكلمة في أعينهم رغيفاً من طين يُعجن بالمذلّة ويُخبز بالخوف، أما في قلب الحسين، فكانت الكلمة تاجًا من نارٍ لا يلبسه إلا الأنقياء، ودرعاً من صدقٍ لا يحمله إلا أولياء الحق.
الكلمة، في ميزان الطغاة، مجرد جسر إلى النجاة المؤقتة، وإن جاء على حساب الشرف. أما في عيون الحسين، فالكلمة مصباحٌ تُضاء به الدروب، أو لهيبٌ يُحرق به الباطل. سألهم متحدياً: “أتدرون ما الكلمة؟”، كأنما يسألهم: “أتدرون ما الحياة؟”. الكلمة ليست حروفًا تُلفظ، بل نبضُ قلبٍ نقي، ووشمُ مبدأ لا يُمحى.
إنها مفتاح الجنة لمن طهرها، وقفل الجحيم لمن دنّسها. الكلمة مئذنة تُصلي منها القيم، أو منجنيق تُرمى به الفضائل من أسوارها. بعض الكلمات كالمطر يوقظ الورد في التربة العطشى، وبعضها كالسُمّ يسري في الوريد. الكلمة تُنهض الأمم، وتُسقط العروش، وتُكتب بها الوصايا، وتُعلن بها الثورات.
الحسين أبى أن يقولها، لأنه يعلم أن الكلمة ليست لعبة سياسة، ولا وسيلة لنجاة فردية، بل هي مرآة الإنسان، وسجّل روحه، وبصمته في كتاب الوجود. فالكلمة التي تُقال اليوم، تُحاكم في الغد، وتُقرأ في الأبد.
أبى الحسين أن ينطق بها، لأنه رفض أن يكون ظلًّا في زمن الانكسار، أو ريشة في مهبّ ريحٍ عمياء. علم أن من يُساوم على الكلمة، ينزع عن نفسه شرفه، كما تُنتزع الروح من الجسد. قالها بملء الجبين العالي: “شرف الرجل هو الكلمة، وشرف الله هو الكلمة”، فصارت الكلمة في فمه جمرة يقف أمامها الحق باكياً، والباطل مرتجفاً.
ويا من تقرأ هذا الآن، تأمّل كلماتك، فهي سُفنٌ قد تُبحر بها إلى مرافئ الرحمة، أو تغرقك في بحارٍ من الندم. قد تفتح الكلمة قلباً، أو تغلق أبواباً لا تُفتح أبداً. كن كما النخيل، يُثمر في قحط المواقف، ويُظلّ في هجير الكلمات القاسية.
انتقِ كلماتك كما ينتقي المؤمن دعاءه في لحظة انكسار، وكما يكتب العاشق أول قصيدة لحبيبته. اجعل لكل حرفٍ نية، ولكل عبارة ضوءاً، وكن ممن يُدخل البهجة بالكلمة، لا الجراح.
فالكلمة حياة… وهي الموت.
هي الجسر… وهي الهاوية.
هي الورد… وهي الشوك.
الإنسان كلمة، وموقف، وأثر. وإن الكلمة لتبقى حتى بعد أن يُنسى قائلها. فازرعها كما تُزرع نخلة في صحراء قاحلة، علّها تثمر في زمنٍ لا يثمر فيه إلا الصادقون.
كونوا شرف الكلمة، وضميرها، وضياءها… فالكون لا يضيء إلا حين تتكلم الأرواح بالحقيقة.