
يوم العمال.. إرثٌ لم ندفع ثمنه ، بقلم : أ. مروة معتز زمر
لعلّ ما يُدهش أكثر من الاحتفاء بيوم العمّال، هو أننا نحتفي بفكرة، وبـِحَقٍّ أُهديَ إلينا دون أن نبذل فيه جهداً يُذكَر
نلبس لهذا اليوم زينةً من الكلمات، ونرفع شعارات جاهزة، دون أن نستشعر أن أحداً، قَبل مِئتي عام، نَـزَف لأجل هذه الكلمات ذاتها، ودُفِن وهو يرفعها
كثيراً ما أقف أمام هذا المشهد المُتكرر في أيامنا؛
…مُناسباتٌ تتوالى، أيامٌ عالمية تزدحم، واحتفالات لا تنتهي
نحتفل بيوم المرأة، وبيوم الأرض، ويوم الأم، ويوم الكرامة، ويوم العامل، ويوم السلام، ويوم التعليم، ويوم الصحة، ويوم الكتاب، ونقف في كل واحدة منها شاكرين من مضوا، لأنهم لم يتركوا لنا فقط ذاكرةً عاطفية، بل حقوقاً جاهزة، وأرضاً ممهدة، وسقوفاً من الكرامة صارت روتيناً يوميّاً لا نشعر بوزنه ولا بثمنه
في كل أمةٍ سابقة كان هناك من تصدّى، من تكلّم حين صمت الجميع، من دفع ثمناً ليضمن للآتين ما لم يكن متاحاً له
كلها أيام تُعطينا إيحاءً أننا في عالمٍ يُنصِف، ويُقدِّر، ويحتفل بالمعاني
لكن: كم من هذه المعاني نعيشها فعلاً، وكم من هذه الأيام هي مجرد ميراث جاهز، لا نعرف تاريخه، ولا نتحمل مسؤوليته؟
إننا نعيش فوق رُكام ثوراتٍ لا نعرف عنها سوى تواريخها، وحقوقٍ جاهد فيها غيرنا لنعيش نحن في ظلها
:وها نحن اليوم أمام واحدة من هذه الذّرى
يوم العمال… تذكيرٌ بثورةٍ وقعت قبل أكثر من قرن، دفع فيها أناسٌ أرواحهم لنجني نحن ثمار العدالة، فكيف وصلت إلينا كرامة الوظيفة وكأنها حق طبيعي؟ كيف أصبحت الثماني ساعات قانوناً لا نقاش فيه، بعدما كانت حلماً دامياً في قلب شيكاغو؟
وكيف لدمٍ سُفك، وعَرقٍ سال، وصرخاتٍ صدحت في ميادين لا نعرف أسماءها، أن تورثنا يوماً عالميّاً وحقوقاً مضمونة، وكرامةً مرفوعة؟
كيف لرجالٍ ونساء لم يكونوا مشاهير، ولم يظهروا على الشاشات، أن يكونوا اللبنة التي وُضع عليها جدار العدالة، ونحن نُقيم فوقه خيام الأمان دون أن نعرف أسماء البنّائين؟
لقد فهموا (أولئك العمال) أن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع
وأن العدل لا يُهدى، بل يُبنى وأن الصمت أمام الظلم، ليس حياداً، بل خيانة للأجيال القادمة
ألا يحق لنا اليوم، أن نحمل الراية كما حملوها؟ أن نكون أوفياء لتلك الدماء التي ما جفّت بعد من كتب التاريخ؟ أن نُعلّم أبناءنا أن هذا اليوم لم يأت من رفاه، بل من نارٍ وسندان؟
قال نيلسون مانديلا:
“العمل ليس وسيلة للبقاء، بل شكل من أشكال الكرامة”
وهي كرامة لا تأتي إلا حين ترفع رأسك عالياً وتقول: أنا أعمل، إذاً أنا أُساهم في بناء هذا العالم.
في زمن بات فيه البعض يقيس القيمة بعدد المتابعين، أو بثمن الهاتف الذي يحمله، نحتاج أن نعود إلى أصل الحكاية:
أن من يبني الطريق أحق بالاحترام من الذي يمشي عليه،
وأن من يصنع الرغيف أقدس من الذي يصوره لينال الإعجابات.
فلنقف اليوم أمام المرآة، ونسأل أنفسنا:
هل كنّا على قدر الإرث؟
ما الثورة التي نخوضها اليوم من أجل من سيأتون بعدنا؟
ما الحقّ الذي نبذل من أجله وقتنا، تعبنا، وربما أنفسنا؟
هل أصبحنا مجرّد مستهلكين للمنجزات، نعيش على رصيد من سبقونا دون أن نضيف عليه شيئاً؟
فيا من تحمل على عاتقك أعباء العمل، وتنهض كل صباح لتبني، وتُصلح، وتُعلّم، وتزرع، وتُنظّف، وتخيط، وتُعالِج…
يا من تكدّ بعرقك لتبقى الكرامة حيّة في أوطانٍ منهكة…
كل عام وأنت أصل الحكاية،
وكل عام، والكرامة تُروى من عرقك النبيل.