2:16 مساءً / 18 ديسمبر، 2025
آخر الاخبار

الآفاق المستقبلية لليسار والتيارات التقدمية في العالم العربي ، بقلم : محمد علوش

الآفاق المستقبلية لليسار والتيارات التقدمية في العالم العربي ، بقلم : محمد علوش

يشهد العالم العربي منذ أكثر من عقد حالة سيولة سياسية وفكرية عميقة، رافقتها تحولات اجتماعية واقتصادية غير مسبوقة، أعادت طرح الأسئلة الكبرى حول الدولة، والعدالة الاجتماعية، والهوية، والديمقراطية، ودور الفاعلين السياسيين التقليديين والجدد، وفي قلب هذه التحولات تقف قوى اليسار والتيارات المدنية التقدمية أمام اختبار تاريخي حاسم: إما الانكفاء والاستمرار في الدور الهامشي، أو إعادة إنتاج ذاتها بوصفها قوة تغيير قادرة على تقديم مشروع مجتمعي بديل، يستجيب لتحديات الحاضر ويستشرف آفاق المستقبل.


لقد تعرض اليسار العربي، بأطيافه المختلفة، خلال العقود الماضية إلى تآكل مزدوج؛ تآكل في البنية التنظيمية، وتآكل في الخطاب والوظيفة الاجتماعية، فمن جهة، أدت التحولات العالمية بعد انهيار الثنائية القطبية، وصعود النيوليبرالية، وتراجع دور الدولة الاجتماعية، إلى إضعاف المرجعيات النظرية الكلاسيكية لليسار، ومن جهة أخرى، فشل اليسار في كثير من التجارب العربية في تجديد أدواته، والاقتراب من هموم الفئات الشعبية، وقراءة التحولات العميقة في بنية المجتمع، خاصة صعود الطبقات الوسطى الهشة، وتفكك سوق العمل، واتساع الاقتصاد غير المنظم.


غير أن هذا التراجع لا يعني غياب الشروط الموضوعية لنهضة جديدة، على العكس، فإن الأزمات المتراكمة التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم، من بطالة وفقر وتفاوت طبقي صارخ، إلى تراجع الخدمات العامة، وخصخصة المجال العام، وتآكل السيادة الاقتصادية، تفتح نافذة تاريخية أمام قوى اليسار والتيارات المدنية التقدمية، فهذه الأزمات ليست عابرة، بل بنيوية، ولا يمكن معالجتها بالحلول التقنية أو الخطابات الشعبوية، بل تتطلب مشروعاً سياسياً واجتماعياً متكاملاً يعيد الاعتبار لفكرة العدالة الاجتماعية، ودور الدولة التنموي، وحقوق العمل، والمواطنة المتساوية.


إن الفرصة المتاحة اليوم أمام الأحزاب الاشتراكية والاجتماعية في العالم العربي مشروطة بقدرتها على امتلاك مشروعها المستقل، لا بوصفه تكراراً لنماذج تاريخية أو استنساخاً لتجارب خارجية، بل كمشروع نابع من الواقع العربي نفسه، مشروع يربط بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، ويضع المسألة الاجتماعية في قلب الصراع السياسي، باعتبارها المدخل الحقيقي لبناء الاستقرار والتنمية والكرامة الإنسانية، فالتجربة أثبتت أن الفصل بين الحريات السياسية والحقوق الاجتماعية لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الاستبداد بأشكال جديدة.


ويمثل سؤال الدولة أحد المحاور المركزية في أي مشروع يساري تقدمي مستقبلي، فالدولة العربية ليست كياناً محايداً، بل هي نتاج تاريخي لعلاقات قوة داخلية وخارجية، وغالباً ما أعيد تشكيلها بما يخدم النخب الضيقة على حساب الأغلبية، ومن هنا، فإن مهمة اليسار لا تكمن في تدمير الدولة أو الانسحاب منها، بل في إعادة بنائها على أسس ديمقراطية واجتماعية، تضمن خضوع السلطة للمساءلة، وتوسيع المشاركة الشعبية، وإعادة توجيه السياسات العامة لصالح الفئات المنتجة والمهمشة.


كما أن أحد التحديات الكبرى أمام قوى اليسار والتيارات المدنية يتمثل في علاقتها بالمجتمع، وبالذات بالأجيال الشابة، فالأجيال الجديدة، التي نشأت في ظل العولمة الرقمية، لا تستجيب بالضرورة للخطابات الأيديولوجية الجامدة، لكنها في الوقت ذاته تعيش أقسى أشكال التهميش وانسداد الأفق، وهذا يتطلب من اليسار لغة جديدة، وأدوات تنظيمية مرنة، وقدرة على العمل في الفضاءات الاجتماعية والثقافية، وليس الاكتفاء بالأطر الحزبية التقليدية، وإن استعادة الثقة مع الشباب تمر عبر ربط النضال السياسي بقضاياهم اليومية، من الحق في العمل والسكن والتعليم، إلى الحريات الفردية والعدالة البيئية.


ولا يمكن تجاهل البعد الإقليمي والدولي في رسم آفاق اليسار العربي. فالعالم يشهد اليوم تصدعات عميقة في النموذج النيوليبرالي، وصعوداً لنقاشات جديدة حول العدالة الضريبية، ودور الدولة، والحماية الاجتماعية، حتى داخل مراكز الرأسمالية العالمية، وهذا يتيح لليسار العربي فرصة لإعادة التموضع، وبناء تحالفات فكرية وسياسية عابرة للحدود، دون الوقوع في فخ التبعية أو الرهان على الخارج، فالاستقلالية الوطنية، والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية، هي حلقات مترابطة لا يمكن فصلها.


إن التيارات المدنية التقدمية، بما تحمله من قيم المواطنة والعقلانية وحقوق الإنسان، تشكل رافعة أساسية لأي مشروع يساري معاصر، شرط ألا تتحول إلى نخب معزولة عن القاعدة الاجتماعية، فالتحدي الحقيقي يكمن في دمج البعد المدني بالبعد الاجتماعي، وبناء جبهة تقدمية واسعة، قادرة على خوض الصراع من أجل الإصلاح الجذري، لا الاكتفاء بإدارة الأزمات أو تحسين شروط التهميش.


في المحصلة، فإن مستقبل قوى اليسار والتيارات المدنية التقدمية في العالم العربي ليس قدراً محتوماً بالفشل أو التراجع. بل هو رهين بقدرتها على النقد الذاتي، وتجديد الفكر والتنظيم، وامتلاك مشروع واضح المعالم، يعبر عن مصالح الأغلبية الاجتماعية، ويطرح بديلاً مقنعاً وقابلاً للتحقق، وإذا استطاعت الأحزاب الاشتراكية والاجتماعية أن تلتقط هذه اللحظة التاريخية، وتتحرر من أسر الماضي دون القطيعة مع جوهر قيمه الإنسانية، فإنها قد تتحول من جديد إلى قوة فاعلة في رسم مستقبل عربي أكثر عدالة وحرية وكرامة.

⦁ محمد علوش – عضو المكتب السياسي لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني

شاهد أيضاً

ارتفاع حصيلة العدوان على قطاع غزة إلى 70,669 شهيدا و171,165 مصابا

شفا – أعلنت مصادر طبية، اليوم الخميس، ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 70,669 …