
لغة تولد من النزف ، تفكيك الموروث الفلسطيني في نصّ يوسف أبو ريدة ، بقلم : د. منى ابو حمدية
اولاً: تجليات الموروث الفلسطيني في القصيدة
الموروث الجمالي: حضور الأرض ككائن واعٍ
عندما يقول الشاعر:
“فهذي الأرض ذاكرةٌ من التاريخ والأشخاص”
فهو يستعيد واحدة من أعمق ثوابت الوعي الفلسطيني:
الأرض ليست مساحة، بل كائن حي، تقرأ وتعرف وتحتفظ بالوجع.
هذا التصوّر راسخ في الثقافة الفلسطينية منذ القصيدة الشعبية وحتى محمود درويش.
فالأرض ـ في المخيال الفلسطيني ـ أمّ، وذاكرة، ومتحف أسرار، وكتاب تاريخ غير مكتوب.
الموروث الوجداني: الحزن كعلامة هوية
صفة “سيد الحزن العميق” ليست مجرد وصف، بل تمثل موروثًا جمعيًا:
الحزن الفلسطيني ليس حالة انكسار بل صيغة من صيغ الهوية.
الجرح هنا ليس جرح فرد بل جرح شعب، وهذا يعكس الإرث الوجداني الممتد منذ النكبة.
الموروث الديني والروحي
الإحالات إلى:
⦁ الصوت المسكون بالصلوات
⦁ القدس والبراق
⦁ رباط الثغور
هي إشارات راسخة في الوعي العربي الفلسطيني.
إنها مفردات مكانية وروحية مرتبطة بالهوية التاريخية، وبشعور أن الدفاع عن الأرض دفاع عن معنى روحي أيضًا.
الموروث السياسي المقاوم
الحديث عن:
“لغة البكاء” – “اللوبي المسيطر” – “نصّ حزنك خارج الكتاب”
كلها امتداد لخطاب المقاومة الذي ميّز الشعر الفلسطيني منذ الستينيات، حيث يتقاطع الوجود الفردي بالمعركة الجمعية.
إن الشاعر هنا يواصل تقليدًا فلسطينيًا:
كشف زيف العالم الحديث مقابل عدالة القضية المغيّبة.
الموروث اللغوي: الخطّ الكوفي
إشارة الشاعر إلى:
“خطّك الكوفي”
هي إحالة تراثية عربية إسلامية، لكنها تكتسب فلسطينية خاصة حين تأتي من شاعر من الخليل، من بيئة مشبعة بالكتابة الكوفية على حجارة المساجد والخانات.
وبذلك يصير الخطّ رمزاً للهوية المطموسة.
ثانياً: نقد أدبي يضيء دور الموروث في بناء القصيدة
- الموروث بوصفه جرحاً لغوياً
القصيدة تعتمد على توظيف الموروث لتضخيم الشعور بالقهر.
فالقدس ليست مكاناً توظيفياً بل مرآة لهزيمة عربية.
الأرض ليست صورة شاعرية بل وثيقة تاريخية تقرأ أبناءها.
بهذا يصبح الموروث أداة نقدية، لا زينة شعرية. - الموروث كجدار مقاومة ضد التلاشي
عندما يصرّ الشاعر على الكتابة بالجرح، فهو يمارس ما مارسه شعراء فلسطين من قبله:
تحويل الوجع إلى خط دفاع أول عن الذاكرة.
وهذا يعكس الموروث الفلسطيني الذي يرى في الكلمة وسيلة للحفاظ على الهوية حين يُصادر كل شيء آخر. - الموروث كعلاقة مشحونة بين الذات والجماعة
النصّ مليء بتوتر صريح بين الشاعر وأمّته:
⦁ أمّة تحاصره
⦁ علّقت سفر الوثيقة
⦁ تكتفي بالبكاء
هذا يستدعي الموروث الفلسطيني الذي عرف دائمًا خذلان المحيط العربي.
فالقصيدة تستعيد هذا الإرث وتعيد طرحه:
القضية المركزية بلا مركز، والبطل الحقيقي يكتب وحيداً.
- الموروث كمحرّك للصور الشعرية
الحديث عن:
⦁ النيل
⦁ البراق
⦁ دار السلام
⦁ المنصور
كلها مفردات ليست عابرة، بل تتكثف داخل الوعي الفلسطيني بطريقة مختلفة عن وعي الآخرين.
الفلسطيني يرى هذه الرموز جزءًا من “خريطة خذلان ممتد”.
- الموروث بوصفه تميمة عزاء
النصّ ينتهي بعودة الشاعر إلى ذاته:
“سدّد جراحك وحدها”
هذا موقف فلسطيني بامتياز:
الاعتماد على الذات حين تتخلى كل الجهات.
ثالثاً: ما الذي يجعل القصيدة “فلسطينية” في جوهرها؟
⦁ مركزية الجرح بوصفه ذاكرة لا جراحة.
⦁ حضور القدس لا كمدينة بل كاختبار أخلاقي.
⦁ تحويل الأرض إلى قارئ حي.
⦁ نقد العالم العربي بمنطق “المنسيّ” الفلسطيني.
⦁ تشفير الألم بلغة الروح، كما يفعل محمود درويش وسميح القاسم وبرغوثي.
⦁ إحساس فردي عميق بمصير جمعي أكبر.
خلاصة النقد
تعتمد القصيدة على الموروث الفلسطيني لا بوصفه زخرفاً، بل بوصفه ركيزة فلسفية وصوتاً داخلياً يتخلل كل المقاطع:
من الأرض إلى القدس، ومن الألم إلى التاريخ، ومن الهوية إلى اللغة.
إنها قصيدة تستنطق الماضي لتفهم الحاضر، وتستنطق الجرح لتخلق معنى جديداً للكتابة.
وهي في النهاية تكتب مأساة الفلسطيني بلغة لا تصرخ، بل تنزف.
- – د. منى ابو حمدية – أكاديمية وباحثة .

شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .