7:27 مساءً / 16 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

يوكوهاما.. مدينة تستيقظ من رماد التاريخ وتمشي على نبض البحر ، بقلم : محمد علوش

يوكوهاما.. مدينة تستيقظ من رماد التاريخ وتمشي على نبض البحر ، بقلم : محمد علوش


لم تكن زيارتي إلى مدينة يوكوهاما اليابانية مجرد رحلة عابرة، بل كانت عبوراً إلى مدينة تنبض بالحياة وتعرف كيف تصنع جمالها الخاص، وهذه المدينة، التي يسكنها ما يقارب ثلاثة ملايين نسمة، تقف اليوم كواحدة من أهم الحواضر الساحلية في اليابان بعد أن نهضت من آثار الزلازل التي تركت ندوبها على الشوارع والمباني، لتعود، كما اليابان دائماً، أكثر صلابة ونقاء، وأكثر قدرة على جمع الماضي بالحاضر في لوحة متكاملة.


من اللحظة الأولى، بدت لي شوارع يوكوهاما كأنها تُغسَل كل صباح بالضوء؛ نظافة مذهلة، وانسياب هادئ، وحدائق صغيرة مزروعة بعناية فائقة تدهشك في كل زاوية، وفي قلب هذه المدينة الواسعة، تنبض محطات القطارات السريعة بإيقاع لا يتوقف؛ قطارات تنطلق بدقة مذهلة، مدفوعة بثقافة الزمن المنظّم وروح شعب يحترم التفاصيل كما لو أنها جزء من هويته وكرامته.


في يومي الأول، رافقني الرفاق من منظمة يوكوهاما لحزب الحركة الديمقراطية الاشتراكية في جولة داخل وسط المدينة، مشينا بين مبانٍ حديثة وممرات محكمة التخطيط، حيث لا شيء يترك للصدفة، واستقبلني اليابانيون بتهذيب جميل وابتسامة خفيفة وإيماءة صادقة تشعرك بأنك ضيف عزيز قبل أن يعرفوا اسمك أو خلفيتك.


ثم اتجهنا نحو الحي الصيني، أحد أشهر أحياء المدينة وأكثرها ازدحاماً بالحياة والألوان، حيث تمتزج رائحة الطعام بالأضواء الحمراء المتدلية من الفوانيس، وتتراقص الأصوات في مشهد حضري نابض بالحياة، وتناولنا العشاء في أحد المطاعم الصينية القديمة، حيث امتزج طعم الأطباق التقليدية بروح الصداقة والعلاقات الرفاقية والدفء الإنساني.


ومع الأيام التالية توسّعت التجربة لتشمل مطاعم أخرى تعكس تنوع اليابان وانفتاحها؛ فقد ذهبنا إلى مطعم نيبالي بسيط ولكنه غني بنكهات آسيوية أصيلة، وإلى مطعم كوري قدّم وجبات حارّة ومفعمة بالدفء وكأنها جزء من حرارة التضامن التي أحاطت بنا في كل مكان.


وفي المساء، كان البحر ينتظرني، فصعدت على متن سفينة صغيرة متجهة إلى خليج يوكوهاما الساحر، حيث تنعكس الأضواء على صفحة الماء الهادئة، وكان المشهد أقرب إلى حلم، لولا كتلة الحديد المسلحة التي تشكّلها القاعدة العسكرية الأميركية، فتقتطع شيئاً من جمال المكان وتذكّر الزائر بثقل السياسة وبشاعة الإمبريالية حتى في أجمل بقاع الأرض.


ومن أبرز محطات زيارتي كانت الندوة الجماهيرية الواسعة في محافظة كاناغاوا ضمن جولة التضامن مع فلسطين، حيث اجتمع لفيف كبير من الأصدقاء اليابانيين في لقاء إنساني عميق، وهناك، أمام ذلك الحضور الكبير، تحدثت عن غزة وفلسطين، فكنت أرى الدموع تنهمر من أعين الكثيرين، وكنت أشعر أن الكلمات تتحول إلى جسر بين قلبين، قلب ينطق بالحقيقة وقلب يصغي بصدق إنساني نادر، ومن بين الحاضرين كانت إحدى الناجيات من مأساة هيروشيما، امرأة حملت في عينيها ذاكرة الجرح الياباني القديم، فكانت تشعر بآلام غزة كما لو أنها جزء من ذاكرتها الشخصية، كما تقدّم بعض المواطنين، وحتى بعض الأطفال، ليحتضنوني ببراءة وصفاء، في لحظة شعرت فيها أن فلسطين ليست فقط قضية سياسية، بل مسافة من القلب إلى القلب.


أول ما يلفت الزائر في يوكوهاما قدرة المدينة على جعل الغريب واحداً من أهلها منذ اللحظة الأولى، وفي الأسواق القديمة تتناثر الروائح التي تحمل ذاكرة اليابان العميقة: بخار المرق الساخن، رائحة السمك الطازج، والشاي الأخضر الذي يشبه دفء اليد في يوم بارد، وفي الأزقة الهادئة، يمرّ الناس بابتسامات قصيرة لكنها كافية لتخفيف تعب الرحلة، وكأن المدينة تمتلك القدرة على منح الطمأنينة بلا جهد.


المدينة ليست صاخبة؛ بل تمنح نفسها ببطء، وتدعك تكتشف جمالها خطوة خطوة، وجمالها ليس في المباني العالية فحسب، بل في التفاصيل الصغيرة: حجر رطب على جانب الطريق، شجرة كرز تنتظر الربيع، أو معبد صغير يختبئ بين البيوت كأنه قلب المدينة.


ورغم ملامح الهدوء، تحمل يوكوهاما ذاكرة عميقة من الألم، فقد ضربتها زلازل مدمّرة، وترك بعضها ندوباً على وجه المدينة، لكنها نهضت من الركام بروح يابانية صلبة، جمعت بين التكنولوجيا الحديثة والإيمان بأن المدن يمكن أن تولد من جديد، واليوم تبدو المدينة وكأنها تقول لمن يمرّ بها إن الألم ليس نهاية، بل بداية أخرى، فقد أعادت بناء موانئها وأحياءها ومدارسها، وعادت الحياة تخرج من بين حجارة الركام كما تخرج الزهرة من قلب الشتاء.


جاءت هذه الزيارة ضمن التحضير لسلسلة ندوات ولقاءات جماهيرية بالتعاون مع الرفاق في منظمة زينكو، تضامناً مع شعبنا الفلسطيني ورفضاً لجريمة الإبادة الجماعية في غزة، وخلال تجوالي في المدينة، كان اليابانيون يقفون حولي بقلوب مفتوحة، يسألون عن أهلنا، عن أطفال فلسطين، عن الدم الذي لم يجف بعد، وعن الظلم الذي تفرضه إسرائيل علينا، وكانت أسئلتهم مغموسة بصدق إنساني عميق، لا يشوبه أي تكلّف ولا مصلحة.


يوكوهاما مدينة تنهض من الرماد، وتفتح ذراعيها للبحر والزائر، وتمنح من يمرّ بها درساً في معنى الصمود، وفي معنى أن يبقى القلب نظيفاً كشارع ياباني بعد مطر الصباح.

شاهد أيضاً

اسعار الذهب اليوم

اسعار الذهب اليوم

شفا – جاءت اسعار الذهب اليوم الأحد 16 نوفمبر كالتالي : سعر أونصة الذهب عالمياً …