الاختيار الإلهي ووهم التفوق عبر التاريخ ، قراءة نقدية في ذهنية الهيمنة والاستعلاء ، بقلم : مصطفى عبدالملك الصميدي

4 نوفمبر، 2025 أقلام و آراء

على مرِّ التاريخ، لم يكن الذين زعموا أنهم “شعب الله المختار” سوى ناقضي عهود، يأخذون من النصوص ما يتماشى مع مصالحهم ويرمون ما سواها وراء ظهورهم، حتى وإن كان في ذلك إخلالٌ بالأخلاق والثقافات والعادات والقوانين الدولية، التي هي من صنيعتهم، وعصارة مختبراتهم العنصرية، ولوبياتهم المحمومة بالعظمة والتعالي.

لا شك أن تلك نزعة غرائزية خُلِقتْ في هويتهم وتمازجتْ بنرجسيتهم منذ فجر الزمان، حتى غدتْ جزءاً من تكوينهم الذاتي، وليس ما جعلهم يتسَامون بسلوكهم هذا مبنياً على وفرة المال، وذهب الارض المكنوز في خزائنهم وحدها، بل على فلسفة الآنا، وعلى نرجسية ترى ذاتها فوق كل اعتبار. فهم يُسمُّون أنفسهم بشعب الله المختار وما دونهم ليسوا سوى أجناس لا يرتقون لِإنْ يكونوا إلا عبيداً في الأرض، بل وأدنى من ذلك أو أكثر.

إننا لا نتحدث من عواطفنا نكايةً بهم، بل من قراءةٍ واعيةٍ للتاريخ الذي يقف شاهداً على وقائع لا تُنكر، فكم من شعوب في الأرض عانتْ من نقضٍهم للعهود، ونسفهم للمعاهدات، وتدخلاتهم السافرة في شؤون الأمم الاخرى، من حكومات، وثقافات، واقتصادات، وموارد، وما يمتد إلى أبعد من ذلك وأكثر، في مشهدٍ مُتكررٍ نراه في حاضر الأيام. ومن هذا المنطلق، بنوا سياساتهم، واقتصاداتهم، وكياناتهم على حساب الآخرين، ولم يتوقف تماديهم وطمعهم عند حد معلوم.

عودة إلى القرن العاشر تحديداً، حينما هاجروا من الشرق نحو الغرب، تغلغلوا في أراضيه، وأعادوا تشكيل المشهد الاجتماعي رويداً رويدا، فقُوِيتْ شوكتهم مع مرور الزمن، حتى تمكنوا من المتاجرة بالسلاح والجماعات الدينية، بدءً بالأرثوذوكس والكاثوليك –كما تمكنوا من تكرير ذلك بعد الثورة الصناعية في الشرق بين الطوائف الإسلامية من شيعةٍ وسنة– فتقاتلتْ الجماعات فيما بينهم، وضعُفَتْ شوكتهم، بينما كانت اللوبيات تبني مشاريعها السياسية والدينية والاقتصادية حجراً بعد آخر على مدى قرنين من الزمن.

ومن رحم تلك التحولات، خرجوا بمشروع جديد ألا وهو المشروع البروتستاني الإصلاحي، الذي أسّس لفكرٍ دينيٍ جديدٍ اُستُخدم لاحقاً أداةً لتوسيع النفوذ. وقد ساعد على ذلك تأييد بعض المصلحين الغربيين، كمارتن لوثر، الذي –وفقاً لما ترويه المصادر التاريخية– روّج لأفكارٍ كانت مدخلاً لتشكيل وعي ديني مغاير، ساعد على تغلغل الفكر البروتستاني الإصلاحي وانتشاره في أوروبا. إذ انتشرت حينها كتاباته بين الناس، مما زاد من زخم التعبئة الدينية والجماهيرية، والسيطرة على الساحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية إلى حين.

غير أن ذلك النفوذ لم يدم طويلاً؛ إذ أدركت فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية خطر التمدد المتنامي، فطُلب منهم المغادرة، كما تُجمع عليه المدونات التاريخية والبحوث والفكرية، فهاجر بعضهم إلى إسبانيا، وتولّوا مناصب عليا في الشؤون التعليمية والسياسية وغيرها. ومع قيام محاكم التفتيش، خافوا البطش، فوجهوا بوصلتهم نحو قارةٍ جديدة لم يكونوا يعرفونها بعد؛ فوصلوا إلى أمريكا –أرض الأحلام– ليستوطنوها ويبنوا فيها إمبراطوريتهم الحديثة.

واليوم، يحاولون أن يجدوا في الشرق “مارتن لوثر” آخر، يستأنفون من خلاله تصدير ثقافتهم ومشروعهم، وهاهم كما نرى في حاضر الأيام كيف هم مستميتون في إشعال سلسلة من الحروب منذ قرن من الزمان، ثم –من خلال حرب وأخرى– يدعون إلى المفاوضات. لكن التفاوض معهم يبدو عسيراً لمن يعرف التاريخ: من فاوض أنبياءه على بقرةٍ، ومن طالب بآلهةٍ كما للأقوام الآخرين، ومن أرهق الرسل بمطالب عبثية لا يمكن أن يُحسب له حساب إلا بالوعي التاريخي، فكيف يُنتظر من مثل هؤلاء وفاء بالعهد أو التزام بميثاق. إنّ التاريخ يُعلّمنا أن من جعل المصالح ميزاناً للأخلاق لن يتوقف عن البحث عن المزيد، مهما كانت التضحيات على حساب الآخرين، وأنّ من خذل العهود وتجاوز الحدود لن يصون ميثاقاً قط.

ختاماً، ليس مقصود هذا الحديث النيل من عقيدةٍ أو شعبٍ بعينه، بل قراءةٌ لذهنيةٍ متكررةٍ عبر التاريخ، تتذرّع بالاصطفاء لتبرير التسلّط والهيمنة. فالتاريخ لا يعيد نفسه عبثاً، بل ليذكّرنا أن فكرة التفوق حين تُقدَّس تتحوّل إلى لعنةٍ على أصحابها قبل غيرهم. وما نراه اليوم ليس إلا امتداداً لعقلٍ استعلائي توهّم أن الله يصطفّ شعوباً دون أخرى، وإنّ الوعي بالتاريخ ليس نكايةً بأحد، بل تحصينٌ للإنسان من أن يقع مجدداً في فخ “الاختيار” الذي لم يَختَرْه الله قط، بل اختارته الأهواء والمصالح.