
الشعرية الصوفية في ديوان ظلال لا تشبهني ، للشاعرة والأكاديمية الجزائرية البروفيسورة سعاد بسناسي ، بقلم : بروفيسورة هداية تاج الأصفياء
مقدمة :
في فضاء الشعر، ثمة أصوات لا تُسمع بالأذن بل تُحس بالقلب، وثمة نصوص لا تُقرأ مرة واحدة، بل تُعاش كما تُعاش التجارب الكبرى. من هذا النسيج، يطلّ ديوان “ظلال لا تشبهني” للبروفيسورة الجزائرية سعاد بسناسي، حاملاً نبضًا يختلط فيه الصفح بالحنين، والنور بالحضور الغائب، في لغةٍ تُشبه ضوء الفجر حين يلامس ذاكرة الماء. هنا، تتقدّم القصيدة كرفيقة طريق، لا لتروي حكاية الشاعرة فحسب، بل لتفتح أمام القارئ أبوابا للذاكرة والهوية والسمو الروحي، في رحلة تتسع للفرد والجماعة معًا.
يمثل ديوان “ظلال لا تشبهني” تجربة شعرية عالية النضج، تمزج بين البوح الشخصي والحنين الجمعي، وبين صفاء الروح ووجع الفقد، في صياغة لغوية مشبعة بروح التصوف وشفافية التأمل. فالشاعرة ابنة بيئة وهران المدينة الجزائرية بكامل تفاصيلها التي تجلت من خلال هذا البوح المشاعري والشاعري العميق.
المؤلفة في سطور :
تمثل البروفيسورة سعاد بسناسي نموذجًا للمرأة الأكاديمية المبدعة التي صنعت حضورها المميز في الساحة الثقافية الجزائرية والعربية، إذ تعد أصغر من نال لقب بروفيسور في الجزائر، وجمعت بين البحث العلمي والكتابة الأدبية، فمزجت عمق الفكر برهافة الحس المتمظهر من خلال قصائد الديوان الذي بين أيدينا.
كما تعد سعاد بسناسي النموذج الأمثل لامرأة صنعت مسارها بالاجتهاد المتواصل والبحث العميق. فقد جعلت من التجربة الأكاديمية والثقافية منبرًا للتأمل الإنساني. حيث نجدها نشاطا يتدفق ليملأ الساحات العلمية والثقافية. لذلك فقد ظلت تجمع بين القيادة والإدارة برئاستها لأكاديمية الوهراني للدراسات العلمية والتفاعل الثقافي. هذه الأكاديمية التي بذلت جهودًا متضافرة وعظيمة في إعادة تشكيل العلاقة بين المؤسسات والخبراء والباحثين وكافة المهتمين بالشأن الأكاديمي والعلمي والثقافي واللغوي، لإنجاز إعادة صياغة الوجدان الجمعي للشعوب في الوطن العربي وكل الشعوب المحبة للحياة.
الشاعرة والديوان بنيته ومحتوياته :
تفتح البروفيسورة سعاد بسناسي في ديوانها( ظلال لا تشبهني)، بوابة من نور وحنين، حيث تتقاطع الذات العاشقة للوطن مع الروح المشرّبة بصفاء التصوف. من الإهداء الذي يشبه همسة سرية، إلى القصيدة الختامية التي تفيض بمناجاة الغياب، تصوغ الشاعرة نصوصًا تحمل القارئ بين الصفح والنور، بين الانتماء والفقد، بلغة شفافة وصور تنبض بالحياة. إنه من المنقصة النظر إلى هذا الديوان نصوصًا شعرية، ذلك لأن المتمعن فيه يجده مرافئ صامتة لقلوب هشة قاومت ونجت بالحروف.
فإن هذا الديوان ( ظلال لا تشبهني)، الصادر في نحو تسعين صفحة، يحتوي على اثنتين وثلاثين قصيدة، إلى جانب لوحات تشكيلية، ويتوزع على ثلاث محطات شعورية أساسية: الصفح الداخلي، الحنين الجمعي، والفقد الممزوج بالوصال الروحي. كذلك غلاف الديوان الذي ينبغي أن نتوقف عنده قليلا.
فقد جاءت عناوين القصائد متنوّعة بين الهمس الداخلي، والانفتاح على فضاء الوطن، واستدعاء الشخصيات والأماكن، كما في: ( لم أخبر أحدا، جذور تمسك بالروح، حين صفق الظل، بين جموع لا تشبهني، ظلال من وطن، طهر لا ينتظر الشكر، هواء يهدهد القلب، وهران حيث للضوء مقام، وطن في حضرة التجلي، الهزيع الأخير، رفق الأرواح، نشيد المدد وغيرها). هذا إلى جانب النصوص الشعرية، نؤكد هنا أن الديوان تتخلله لوحات تشكيلية ، وصور ذهنية ، التي جاءت لتعبر عن مساحات لونية توازي التعبير الشعري، وتمنح القارئ فرصة لالتقاط أنفاسه بين النصوص، في تفاعل بصري وجداني.
الغلاف:
جاء الغلاف الخارجي للديوان ليمثل عتبة بصرية للنصوص. فتصميمه يوازي الجو الشعوري لها. إذ يغلب عليه اللونان الأبيض والرمادي الفاتح، في إحالة إلى صفاء الروح وضباب الحنين، مع لمسات من الأزرق المائل إلى الفيروزي تذكّر بانعكاس الضوء على سطح الماء. في مركز الغلاف تتوزع ظلال خفيفة لأشكال بشرية غير مكتملة الملامح، كأنها أطياف عابرة، في انسجام مع عنوان الديوان “ظلال لا تشبهني”. أما العنوان فقد كُتب بخط عربي أنيق يميل إلى الانسياب، مما يعزز الإحساس بأن القارئ على وشك الدخول في عالم شعري يتماهى فيه الحلم مع الذاكرة. هنا لا نتحدث عن الغلاف بوصفه واجهة، بل هو مفتاح بصري لروح الديوان.
نشير هنا أيضًا إلى أن ألوان الغلاف تتميز بالهدوء إذ تتماوج بين الظل والنور،بينما تتوسط الغلاف لوحة تشكيلية تتناغم مع روحه الداخلية، وكأنها تلخص فكرته المركزية القائلة بأن الظلال ليست إلا أثرًا للنور. كما نضيف إلى ذلك كله أن خط العنوان يعكس صدق التجربة الشعرية وبعدها عن الزخرف المفتعل. أما الغلاف الخلفي فهو يضم مقتطفات شعرية ولمحة عن المؤلفة، مما يهيئ القارئ لرحلة ذات طابع تأملي وروحي.
الإهداء:
إننا عندما ننتقل إلى الداخل نجد الإهداء، حيث تكشف سعاد بسناسي عن انحيازها إلى البوح الروحي، حيث تقول:
( إلى الطيف الذي همس في أذن انتظاري فجأة.
إلى الحنين الذي يسكنني كما يسكن الضوء ذاكرة الماء.
إلى أنس صار رفيقًا، فلم أعد أهاب وحدتي.
إلى كل صمت صاغني من الداخل، فصرت أنفاس قصيدة.
أهدي هذه الهمسات لكل من حمل قلبًا هشًا، فقاوم، ولكل من أحب بصمت فنجا بالحروف.)
هذا الإهداء لا ينم عن كلمات عابرة فحسب ، بل يشكل مفتاحا للقراءة ، فهو مزيج من الذاكرة والسكينة والمقاومة الداخلية، موجه لكل الأرواح الهشة التي نجت بالكلمة. لغته مشبعة بالصور البلاغية (الضوء يسكن ذاكرة الماء، الصمت يصوغ الداخل)، هذه صور تكشف عن حس صوفي يجعل من اللغة أداة تطهير وارتقاء.
مما يجعل هذا الإهداء يمثل عتبة للدخول ، كما ويضعنا في قلب التجربة الوجدانية للديوان.
فلنقرأ قولها في الإهداء مرة أخرى إلى الطيف الذي همس في أذن انتظاري فجأة… إلى كل صمت صاغني من الداخل فصرت أنفاس قصيدة… لكل من حمل قلبًا هشًا فقاوم، ولكل من أحب بصمت فنجا بالحروف.)
هنا يتجلى الطيف بوصفه رمزًا للحضور الغائب، والحنين ضوءًا يسكن ذاكرة الماء، والصمت قوة خفية تشكل الذات من الداخل. أمام هذا الوصف لا يسعنا إلأ أن نقول بأن الإهداء في حد ذاته قصيدة تفتح الباب لفهم المناخ العاطفي والروحي الذي يظلل نصوص هذا الديوان .
تجدر الإشارة هنا أيضآ إلى أن هذا الإهداء قد أصبح بوابة إلى عالم الشاعرة بسناسي. فالنص أعلاه على الرغم من قصره، غير أنه يلخص محور هذا الديوان لكونه يتضمن الحضور والغياب، الطهر والصبر، الحب الصامت الذي يتحول إلى كتابة. إنه إعلان عن توجه صوفي يزاوج بين التجربة الشخصية والنفس الجمعي الذي يبرز تراكم الخبرات الفردية والجمعية والمجتمعية المتنوعة، حيث الألم يصبح طريقا للنور عند الشاعرة.
محتوى الديوان
يقع الديوان في نحو تسعين صفحة ويضم عدد( 32) قصيدة. القصيدة الأولى فيه ، هي( لَمْ أُخْبِرْ أَحَدًا)، وبينها وبين القصيدة الخاتمة ثلاثون قصيدة، تعطي عناوينها جل مضامينها. نذكر هنا العناوين ونترك للقارئ فرصة السياحة فيها( جُذُورٌ تَمْسِكُ بِالرُّوحِ، حِينَ صَفَقَ الظِّلُّ، بَيْنَ جُمُوعٍ لا تَشْبِهُنِي، فِي الصَّدِّ كَانَ دَرْبُهَا، ظِلَالٌ مِنْ وَطَنٍ، اكْتِمْكْ كَيْ لا يَضِيعَ اسْمُكَ فِي الزَّحَامِ، طَهْرٌ لا يَنْتَظِرُ الشُّكْرَ، هَوَاءٌ يَهَدِّدُ الْقَلْبَ، اِغْمِضْ بَصَرَكَ لِتَرَى، صَدَى الْخُطَى عَلَى وَتَرِ الْبَتْرَاءَ، فِي رِحَابِ عَمِّي مُوسَى، سِرُّ النُّورِ الْخَفِيِّ، حَفَاوَةٌ لا تَنْطِقُ لُغَتِي، مَطَرٌ لا يَبْتَلُّ بِهِ أَحَدٌ، رَجَعَ الْغَائِبُ، مُنَاجَاةٌ عَلَى هَامِشِ الرَّفْضِ، حَنِينٌ لا يُتَرْجَمُ، شَذَى الْوَرَقِ، طَيِّبٌ وَلَكِنْ مَرَّتْ سَحَابَتُهُ، وَهْرَانُ حَيْثُ لِلضَّوْءِ مَقَامٌ، تَحَرَّرِي مِنْ قُيُودِكِ، حِينَ يَصُدُّ الْحَبِيبُ عَنِ الْهَوَى، نُورُ السَّمَوَاتِ، وَطَنٌ فِي حَضْرَةِ التَّجَلِّي، كَمَا يَرَانِي النُّورُ، نَبْضٌ بِلَا اسْمٍ، صَحَوْتُ وَمَا كُنْتُ نَائِمًا، الْهَزِيعُ الأَخِيرُ، الْهِلاَلُ الَّذِي نَسِيَ الرَّعْدَ، رِفْقُ الْأَرْوَاحِ). ثم القصيدة الخاتمة(نَشِيدُ الْمَدَد)
وقد زُيّن الديوان ببعض اللوحات التشكيلية التي تعكس الجو الروحي والجمالي للنصوص، والتي صممت لإيضاح بعضها.
دلالة العناوين :
من خلال هذه العناوين تبدو خيوط المسار الشعوري، التي يمكن من خلالها تمييز ثلاث مناطق شعورية:
أولها /الصفح والسكينة الداخلية : تظهر بصورة جلية في بعض القصائد مثل لم أخبر أحدًا، طهر لا ينتظر الشكر، رفق الأرواح…… الخ
ثانيها / الوطن والحنين الجمعي : تظهر في بعض القصائد، مثل ظلال من وطن، وهران حيث للضوء مقام، ….. الخ
ثالثها / الفقد والوصال الروحي : تتجلى في بعض القصائد، مثل رجع الغائب، الهزيع الأخير، نشيد المدد، …الخ
يلحظ أن هذا التدرج في قصائد الديوان يوازي رحلة وجدانية تبدأ من الذات،ثم تتسع للجماعة، وتنتهي بالمطلق.
كذلك فأن ترتيب هذه العناوين يعكس أيضآ مسارًا وجدانيًا يبدأ من الذات، ثم يمر بالجماعة، ثم ينفتح على المطلق. حالها حال الزخرفة العربية الإسلامية(الارابيسكو ).
عليه فهناك ثلاثة محاور، هذه المحاور الثلاثة تجيش في داخل الشاعرة، وقد تم رصدها من خلال عناوين القصائد ومضامينها فكان المحور الأول في المنطقة الشعورية الأولى، حيث الصفح والتسامي الروحي يتجلى في النصوص التي تجعل من العفو موقفًا وجوديًا. أما المحور الثاني فمكانه المنطقة الشعورية الثانية إذ تتمثل في الحنين والذاكرة حيث الوطن والأماكن والأشخاص الغائبون يتحولون إلى طيف دائم في النصوص. بينما في محور المنطقة الشعورية الثالثة نجد النور والتجلي حيث تستحضر الشاعرة المعجم الصوفي والنوراني لرفع التجربة الشعرية إلى مستوى التأمل الروحي.
إن هذا التدرج يوازي أيضًا رحلة وجدانية تبدأ من الذات لتتسع للجماعة، وتنتهي بالمطلق، لتبرز من خلاله السمات اللغوية والأسلوبية، حيث نجد لغة شفافة ذات نبرة صوفية تمزج البساطة بالعمق. كما أن هناك إيقاع داخلي متدفق يعتمد على التوازي والترادف. إضافة إلى صور شعرية كثيفة تمزج المحسوس بالمجرد، مثل( أغمض بصرك لترى).
القصيدتان( من الافتتاح إلى الخاتمة) :
اختارت الشاعرة أن تفتتح ديوانها بقصيدة( لم أخبر أحدا)، حيث يتقاطع الصفح مع النور، والصبر مع الكبرياء الروحي، لتضع القارئ منذ البدء في أفق شعري متسامٍ:
( أأطفئ نوري لأرضي جهل من ظلموا؟
بل إني في النور أبقى، وهو ما زال…)
وفي الخاتمة، قصيدة( نشيد المدد) حيث يتحول الحنين إلى طاقة بقاء، ويغدو الغياب حضورًا ممتدًا في الذاكرة، فتقول :
( لم أطلب الوصل، بل أن أبقى وفيا
لمن عبروا روحي كالنشيد الأوحد)
إنه وبهذا التوازي، تصوغ الشاعرة سعاد بسناسي مسارًا يبدأ من الصفح وينتهي إلى الرضا، من الجرح إلى المدد.
القصيدة الأولى :
إنني وبهذا أخص القصيدة بالتناول لأنها القصيدة الافتتاحية التي جاءت تحت عنوان( لم أخبر أحدا). حيث تبدأ الشاعرة من نقطة الصفح، فنجد الألم لا يتحول إلى انتقام، بل إلى نور باقٍ، كما في قولها:
( أأطفئ نوري لأرضي جهل من ظلموا؟
بل إني في النور أبقى، وهو ما زال…)
فالقصيدة هنا تعلن عن موقف أخلاقي وروحي، يرى أن العفو ارتقاء، وأن الطهارة لا تُشترى بالكلمات، بل تُبنى بالصبر والمجاهدة الداخلية.
نشير هنا إلى أن هذه القصيدة الافتتاحية تضع القارئ أمام معادلة الطهر والصبر، حيث تقول الشاعرة:
من علم الحب صفحًا يهتدي بالهدى، لا بما قد خطه القيل وقال.
إذ نلحظ هنا أن الصفح ليس ضعفًا بل نور يثبت أمام جهل الظالمين، فالقصيدة خطاب موجه للذات كي تكتب( آيات الرقي )، وتسامح لترتقي.
القصيدة الختامية )نشيد المدد ):
تمثل هذه القصيدة الخاتمة، مناجاة روحية لأخيها الراحل طيب بسناسي، وربما آخرين، لكنها لا تذوب في الحزن بل تحوّله إلى وصال متعالٍ ، حيث تقول
( فيا من مضى، لا الغياب أطفاكم ولا الموت أغلق بابكم في المدد…).
إنها رؤية صوفية للموت، حيث الغياب ليس انقطاعًا بل امتدادًا، والحضور يتحقق عبر الذكرى.
هكذا يُختتم الديوان بمناجاة عميقة لأخيها طيب بسناسي الذي فقدته الشاعرة قبل ثلاث سنوات ، وربما لآخرين غابوا. النص يستحضرهم مثل (باب إلى الضوء المعلق) ، ومثل( نجوم لا تغيب). فالحزن هنا لا يقيم في الملامح بل في خمرة الذكرى ولهفة الدعاء، والقصيدة تتحول إلى مرثية مضيئة، تجعل الموت امتدادًا للحياة في الذاكرة.
هذه القصيدة الخاتمة(نشيد المدد)، تمثل الحنين الذي لا ينطفئ، فهي قد جاءت في ختام الديوان بوصفها بكائية حزينة تعبر عن أعلى درجات البوح، حيث تتحول الكلمات إلى مناجاة لأخ الشاعرة الراحل طيب بسناسي منذ ثلاث سنوات ، وربما لآخرين غيّبتهم يد القدر كما أسلفنا. لكنهم ظلّوا حاضرين في وجدانها. هنا يتخذ النص شكلا حواريا صامتا مع الغائبين، غير أنه في ذات الوقت حوارٌ لا يستجدي العودة، بل يؤكد الوفاء والاستمرار في حمل أثرهم. يلحظ هنا أن الصور الشعرية الموشّاة بمفردات النور، الغيث، المدى، والنشيد، تعمل على إيجاد فضاء روحي يسمو فوق الحزن المعتاد، ليصبح الغياب طاقة نورانية تربط بين عالم الشاعرة وعالم أحبتها الراحلين. عليه فمن خلال هذه القصيدة، تكتمل دورة الديوان بين افتتاحية مشبعة بالصفح وطمأنينة الروح، وختامية تمزج الحنين بالإيمان العميق بأن الروح الإنسانية تبقى حاضرة، مهما غيّبها الموت.
السمات اللغوية والأسلوبية للديوان :
من خلال القراءة المتأنية تتضح السمات اللغوية والأسلوبية التي تميز ديوان(ظلال لا تشبهني). فهي تتبلور في نقاط أساسية يمكن أن نخلصها في الآتي :
أولاً / أن اللغة شفافة صوفية النبرة، تجمع بين البساطة المعجمية والعمق الدلالي، حيث تتكرر مفردات النور، الطهر، الغياب، المدد، مما يعكس تشرّب الشاعرة بروح التصوف.
ثانياً / وجود إيقاع داخلي متدفق بسلاسة متصلة ، يعتمد على التوازي والترادف أكثر من الوزن الصارم، ما يمنح النصوص حرية موسيقية تشبه التلاوة الوجدانية.
ثالثًا / وجود صور شعرية كثيفة تمزج بين المحسوس والمجرد، في مثل قولها :(أغمض بصرك لترى)، ( ظل تخلى عن الجسد)وغيرها من الصور، فهي صور تحفز القارئ على التأويل بدلا من الاكتفاء بالتلقي المباشر فقط .
هذه العناصر والسمات تجعل الديوان نصًا مفتوحًا، يتجاوز اللحظة الشعرية إلى فضاء تأملي ممتد، يتيح للقراء الدخول في حوار شخصي مع النصوص، كل حسب تجربته الوجدانية الخاصة به.
اللغة جسر بين الفردي والجمعي :
لقد جاءت لغة هذا الديوان (ظلال لا تشبهني) مبنية على توازن بين الإيحاء الشعري والحمولة الثقافية والاجتماعية. فهي لغة ذات جذور في الفصحى التراثية، تستدعي ألفاظًا من معجم الصفاء الروحي مثل (الطهر، النور ، المدد، الصمد)، غير أنها في الوقت نفسه لغة حية تتحاور مع الوجدان المعاصر من خلال الصور اليومية والرموز المحلية المتماسكة.
هذه اللغة تسجل التجربة الشخصية للشاعرة سعاد بسناسي ، وتعيد وصلها بالذاكرة الجمعية، بحيث يجد القارئ ذاته في النصوص، سواء كان قريبًا من تجربتها أم بعيدًا عنها. إذ تتحول المفردات إلى مفاتيح لاستحضار قيم المجتمع مثل (الصبر، الصفح، الحنين، الوفاء)، وهي قيم تجعل النصوص فضاءً مشتركًا للبوح الجماعي الذي يمثل الخبرات المجتمعية المتراكمة .
الخلاصة والخاتمة:
من خلال كل تقدم نخلص إلى أن(ظلال لا تشبهني) ليس ديوانا شعريا فحسب ، بل رحلة تأملية بين محطات الصفح، الحنين، والفقد، مكتوبة بلغة تتسع لتجربة القارئ وتدعوه لمشاركة الشاعرة سعاد بسناسي في سفرها الروحي.
لذلك كله سوف يمضي ديوان( ظلال لا تشبهني ) في مساره الذي يمثل رحلة بين مطلع يفتح القلب على الصفح والنور، وخاتمة تضع الغياب في مقام الحضور السرمدي. و ما بينهما تتقاطع الظلال مع الضوء، وتتعانق الذاكرة الفردية مع النفس الجمعي لتُشكّل خريطة وجدانية تحفظ ما هو أعمق من الكلمات، نبض إنسان يكتب ذاته ليكتبنا جميعًا. وفي نهاية هذه القراءة أقول : تبقى قصائد سعاد بسناسي حية فينا إلى الأبد ، فهي ليست نصوصا مطبوعة فحسب ، بل مساحات للبوح والتأمل، تعلّمنا أن الحنين حين يتجلّى في الشعر، لا يكون استعادةً للماضي فقط ، بل بناءً لجسرٍ يعبر بنا نحو ضوء لا ينطفئ طالما حيينا .
بهذا فإن ديوان(ظلال لا تشبهني) يخبرنا أنه يتجاوز نصوصه الشعرية، ليصبح رحلة وجدانية تعكس خبرة متراكمة وحساسية لغوية عالية، حيث تنسجم اللغة الصوفية مع التجربة الإنسانية اليومية للشاعرة سعاد بسناسي .
كذلك فإن ديوان( ظلال لا تشبهني) يمثل نصا يتطلب القراءة المتأنية حقا، لأنه مكتوب من قلب يرى في الحضور ظلًا للنور، وفي الغياب حضورًا آخر لا ينطفئ أبد الدهر.
- – بروفيسورة – هداية تاج الأصفياء – السودان . الخرطوم .
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .