
من “العطف” إلى الجريمة: وعد بلفور والحق الفلسطيني في محاسبة بريطانيا ، بقلم : المهندس غسان جابر
في صباحٍ بارد من نوفمبر عام 1917، جلس اللورد آرثر بلفور على مكتبه في وزارة الخارجية البريطانية، ليخطّ رسالة قصيرة إلى اللورد روتشيلد، زعيم الجالية اليهودية في بريطانيا. لم يكن يدرك، أو لعله كان يدرك جيداً، أن تلك الرسالة ستكون أخطر وثيقة سياسية في تاريخ الشرق الأوسط، وأن كلماتها التي تبدأ بعبارة “تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”، ستتحول إلى لعنة تاريخية تطارد الشعب الفلسطيني حتى اليوم.
لكن، ماذا يعني “تنظر بعين العطف”؟
هل كان عطفاً إنسانياً على شعبٍ مضطهد؟ أم كان عطفاً استعمارياً مشروطاً، يخفي خلفه أطماعاً سياسية وأمنية؟
في الحقيقة، لم يكن في الأمر أي عطفٍ ولا إنسانية؛ كانت بريطانيا ترى في الحركة الصهيونية أداة استراتيجية لتثبيت نفوذها في المشرق العربي بعد انهيار الدولة العثمانية. كانت تريد قاعدة متقدمة في فلسطين لحماية طريقها إلى الهند ومصالحها في قناة السويس، فأهدت أرضاً لا تملكها، لشعبٍ لا حق له فيها، على حساب شعبٍ كان يعيش فيها منذ آلاف السنين.
هكذا كتب بلفور، وهكذا بدأت الجريمة.
الصفقة الخفية وراء الوعد
كان وعد بلفور جزءاً من لعبة القوى الكبرى خلال الحرب العالمية الأولى.
في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تعد العرب بالاستقلال عبر مراسلاتها مع الشريف حسين، كانت في الكواليس تخطط لتقسيم المنطقة مع فرنسا في اتفاقية سايكس–بيكو، ثم أضافت الوعد الثالث لليهود لتضمن ولاءهم ودعمهم المالي والسياسي والإعلامي في الحرب.
لقد استخدمت بريطانيا “الوعد” كعملة تفاوض، وكأن فلسطين ورقة في سوق المصالح الدولية، لا وطنٌ لشعبٍ له تاريخه وجذوره.
من العطف إلى الاحتلال
تحوّل “العطف” إلى بنادق، و”التعاطف” إلى انتداب.
بعد الحرب، وضعت بريطانيا فلسطين تحت حكمها العسكري، وبدأت بتنفيذ وعدها:
فتحت أبواب الهجرة اليهودية، صادرت الأراضي، ودعمت العصابات الصهيونية بالسلاح والتدريب.
وعندما انتفض الفلسطينيون دفاعاً عن أرضهم، أُطلق عليهم الرصاص باسم “النظام العام”.
كانت بريطانيا، كما كتب أحد المؤرخين، “القابلة القانونية لولادة إسرائيل”.
ولم تكتفِ بالجريمة، بل غادرت عام 1948 تاركةً وراءها شعباً مشرّداً ووطنًا ممزقًا.
الوثيقة التي يمكن أن تُدين بريطانيا
اليوم، بعد مرور أكثر من قرن، لا تزال وثيقة وعد بلفور دليلاً قانونياً حيّاً يمكن استخدامه في المحاكم الدولية لمطالبة بريطانيا بالتعويض والمساءلة.
فهي ليست مجرد ورقة تاريخية، بل إقرار رسمي من دولة استعمارية بتغيير هوية أرضٍ مأهولة بالقوة والدعم السياسي والعسكري.
تُستخدم هذه الوثيقة اليوم في ملفات قانونية أمام المحاكم البريطانية والدولية، لإثبات أن بريطانيا تسببت بالأضرار السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي لحقت بالشعب الفلسطيني: من التهجير القسري إلى مصادرة الممتلكات وانتهاك الحقوق الأساسية.
يمكن مقاضاة الحكومة البريطانية أمام المحكمة الإدارية البريطانية أو أمام المحكمة العليا في المملكة المتحدة، على أساس انتهاكها للقانون الدولي ولحقوق الإنسان، إضافة إلى المطالبة بالتعويض وفق قواعد العدالة الدولية.
جيل جديد… ومهمة لم تكتمل
المسؤولية اليوم لا تقع على عاتق التاريخ، بل على الجيل الفلسطيني الشاب.
جيل يعرف أن المعركة لم تعد فقط على الأرض، بل على الذاكرة والعدالة والقانون.
جيل يستطيع أن يستخدم الأدوات الحديثة — الإعلام، القانون، الدبلوماسية، والوعي — ليُعيد فتح ملف بريطانيا أمام الرأي العام العالمي.
فليس من العدل أن تظل بريطانيا تتباهى بإرثها الديمقراطي بينما تتنصل من أبشع جريمة استعمارية في القرن العشرين.
وليس من الوطنية أن نصمت عن حقٍّ يمكن تحويله إلى قضية قانونية ودبلوماسية تُعيد الاعتبار لتاريخنا.
من وعد بلفور إلى وعد الفلسطينيين
نقول إن وعد بلفور لم يكن قدراً، بل خطيئة سياسية متعمدة.
لكن الشعوب لا تُحاكم التاريخ بالندب، بل بالفعل.
ولذلك، فإن الواجب اليوم هو تحويل الذاكرة إلى فعلٍ قانوني وسياسي جماعي،
وتحويل الذكرى إلى منصة نضال جديدة تطالب العالم بالاعتراف والعدالة.
لقد حان الوقت أن نردّ على وعد بلفور بوعدٍ فلسطيني جديد:
أن تبقى فلسطين قضية الحق في وجه القوة، والعدالة في وجه التاريخ المزوّر،
وأن تبقى بريطانيا مطالبة بالمحاسبة إلى أن تعتذر وتدفع الثمن.
م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في – نائب رئيس اللجنة التحضيرية لمنبر صحفيون من أجل فلسطين.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .