
نظرة في كتاب – هامش أخير- تأمّلات الأديب محمود شقير ، بقلم : صباح بشير
صباح بشير:
أمس في نادي حيفا الثّقافيّ، وصلتنا هديّة أنيقة من قامة أدبيّة رفيعة، الأديب القدير محمود شقير.
تمثّلت الهديّة في نسختين من مؤلَّفه الجديد الموسوم بـ “هامش أخير”، وقد سررت أنا والأستاذ فؤاد نقّارة، بتسلّم النّسختين من الدّكتور خالد تركي الّذي تكرّم مشكورا بإيصالهما إلينا.
لقد تصفّحت هذا الكتاب على عجل، فتبدّى لي بوضوح أنّه رحلة روح وخريطة وجدان، خطّها الأديب شقير بمداد الصّدق، وأنار بها دروب ذاكرة تمتدّ من القدس إلى المنافي البعيدة.
لذلك، عقدت العزم على قراءة الكتاب كاملا لإقامة ألفة فكريّة معه، والغوص في تفاصيله وعوالمه صفحة صفحة، تذوّقا للحكمة ومتعةً بالبوح الشّفيف، وبالتّأكيد.. سأستمتع بكلّ سطر جادت به يد الأستاذ شقير عن نفسه، مترقّبة أن يكشف، كما وعد في مقدّمته، عن أسرار قوّته وضعفه، وأن يشركنا في تأمّلاته العميقة حول الحياة والكتابة والقدس.
إنّه موعد مع نصّ أدبيّ مفعم بالشّفافية، يَعِدُ قارئه بانعكاس عميق على الذّات، وشهادة بليغة على زمن عاشه.
يفتتح أديبنا مؤلّفه بإهداء يلامس شغاف القلب: “إلى مُلهِمتي وصانعة فرحي وأحزاني: القدس”. وفي مقدّمة الكتاب، يبدي توقّعه بأن تكون هذه الصّفحات القادمة، هي مُستَهلّ الختام لما تبقّى لديه من سرد لجوانب سيرته الذّاتيّة، مكملا بذلك ما بدأه في أيقونات سابقة كـ “ظلّ آخر للمدينة” و”تلك الأمكنة” و”تلك الأزمنة” و “في بعض تجلّيات السّيرة الفلسطينيّة”، الّتي كانت قد رسمت ملامح سيرته وعلاقته الوثيقة بالقدس، والمنفى الطّويل الّذي عاشه بعيدا عنها.
لقد شكّلت هذه الأعمال سجلّا حافلا يوثّق تفاصيل الحياة اليوميّة في المدينة المقدّسة، ويرصد التّحوّلات الّتي طرأت على أحيائها وشخوصها، مع إبراز عمق الانتماء الرّاسخ في مواجهة محاولات المحو والإبعاد، لتغدو سيرته الشّخصيّة مرآة صادقة للسيرة الجماعيّة والهويّة المسكونة بالحنين، وحبّ الأرض وتجذّر المكان.
في هذا الهامش الأخير، يتّجه الأديب ببوصلة البوح نحو أعماق ذاته، مستوفيا النّقص الّذي ارتآه في كتب سيرته السّابقة، فيتحدّث عن ماهيته، مزاوجا بين مواطن القوّة ووهاد الضّعف، ويسائل نفسه عن الإساءات الّتي تعرّض لها وآثر التّغاضي عنها؛ فهل كان صمته نابعا من عفو القادر أم من هوادة الضّعيف؟ يتساءل بمرارة (ص8) عن سبب سكوته على أذى أشخاص استباحوا سمعته بالغمز واللّمز حينا، وبالغيبة الصّريحة حينا آخر، ليجيب بصدق شفيف: “ربّما كان خجلي الزّائد هو المشكلة”، فاحترامه للجميع، وتجنّبه للخصومات، وسعيه لاختصار دائرة اشتعال المشاكل، هي كلّها صفات نابعة من مصالحة عميقة مع الذّات، تبرهن عليها سنوات العمل العامّ الطّوال الّتي أمضاها في صدق واستقامة وشرف بين النّاس.
يفصح أديبنا وهو يخطو نحو عامه الرّابع والثّمانين بعد مسيرة حافلة بالكتابة، عن جوهر فعله الإبداعيّ، ففلسفة قلمه تبدأ بإرضاء الذّات والتّعبير عنها أولا، مجسّدا رغبة عميقة في أداء رسالته في الحياة.
إنّ مداد شقير لا يقف عند حدود الذّات، بل ينساب ليحتضن النّاس الّذين يعايشهم، وفي صدارتهم شعبه الصّابر، الّذي يتجذّر ألمه لأكثر من مائة عام، داعيا له بالحياة الكريمة تحت مظلّة الحرّيّة والدّيمقراطية والعدالة الاجتماعيّة، والعودة والاستقلال، وقلمه كذلك، فهو منارة تضيء لكلّ روح بشريّة في هذا العالم، تتوق إلى الكرامة والعدل والسّلام.
بالنّسبة إليه، الكتابة هي المهمّة الوحيدة تقريبا الّتي يكرّس لها ما تبقّى من رحلة عمره، هي درعه الّذي يقي حياته من أن تكون خاوية جوفاء، وهي المُعين على مواصلة المسير. لهذا، يجتهد في كتابة نصٍّ يمجّد الحياة ويعلي من شأن الإنسان، ويضع الإنسانيّة في مصافّها اللّائق.
إنّها مشاركة فعّالة منه في الدّفاع عن قِيَم الحقّ والخير والجمال، ونشرها في كلّ بقعة من العالم. وعلى الرّغم من المسيرة الّتي قطعها في فنون القصّة والرّواية والسّيرة وأدب الأطفال والفتيان، مثريا المشهد الثّقافيّ والأدبيّ الفلسطينيّ والعربيّ، فإنّ الأديب لا يزال مشدودا إلى مزيد من الإنجازات، ويطمح أن تتّسق كتاباته مع قِيَم التّضحية لشعبه، وأن تظلّ في الوقت ذاته متطابقة في مضامينها الإنسانيّة وجماليّاتها الفنّيّة مع القضيّة، وهو يدرك أنّ الكثير ممّا لم يكتبه ما زال ينتظر، مؤكّدا أنّ معايشته العميقة للشّؤون العامّة المتداخلة مع مشاعره الخاصّة، هي النّبع الّذي سيستمرّ في إمداد هذا الأدب الصّادق، المعبّر عن ذاته وهمومه، وعن شعبه وتطلّعاته.
بعد هذه التّوطئة الوجدانيّة العميقة، يفسح الأديب المجال للصّفحات التّالية، الّتي تُشكّل الجزء المتبقّي من هذه السّيرة؛ فصول من المشاهد والذّكريات والتّأمّلات، وإشارات مضيئة إلى مسيرته مع القلم.
ينحو هذا الهامش الأخير منحى السّرد غير المتكلّف، ملقيا الضّوء على ما لم يتسنّ له ذكره في مؤلّفاته السّابقة، وفي سلاسة مدهشة، لم يتقيّد الكاتب بالتّسلسل الزّمنيّ الجامد للأحداث، ولم يسترسل في السّرد المطوّل إلا بقدر ما اقتضته الضّرورة، وتتويجا للكتاب، نجد في ملحقه نصوصا بديعة أوردها الأديب اعتزازا بها وبكتّابها الّذين قدّروه برسائل وشهادات بمناسبة بلوغه الثمانين، منهم الأديب إبراهيم نصرالله، الشّاعر عبد السّلام عطاري، الأديب إبراهيم جوهر، د. عادل الأسطة، الأستاذ معن البياري، وغيرهم.
ختاما: إنّ “هامش أخير”، هو خلاصة عقود من العيش والكتابة والتّأمّل في حياة أديب، وعمل يمثّل إضافة لسيرته، يختزل فيه شقير تجربته الثّريّة، جاعلا من ذاته ووجدانه منارة تضيء الطّريق إلى قضية شعبه الأزليّة، وإلى قِيَم الإنسانيّة الرّفيعة.
هذا الكتاب، الّذي استهلّ بإهداء يعانق شغاف القلب إلى القدس، واختُتِمَ بشهادات الأدباء، يؤكّد أنّ هذه المسيرة الأدبيّة، هي سجلّ وفيّ للتّجذّر والمقاومة بالكلمة. وإذ نعقد العزم على الغوص في تفاصيل هذه الصّفحات، فإنّنا نترقّب موعدا مع الحكمة المصفّاة وشهادة بليغة، فيها يبرهن القلم، حتّى في “هامشه الأخير”، أنّه القوّة الفاعلة في وجه النّسيان، والدّرع الواقي لروح الكاتب وقضية أمّته.
نعتزّ بهذه القامة الأدبيّة، ونعرب عن فخرنا العميق بمسيرته الإبداعيّة الملهمة، ونثمّن عطاءه الأدبيّ والثّقافيّ الغزير. أمدّ الله في عمره، ومتّعه بموفور الصّحة والعافية.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .