قراءة أدبية في نصوص – تانكا 1 ، 2 للأديبة فاطمة الفلاحي ، بقلم : الدكتور عادل جوده

قراءة أدبية في نصوص – تانكا 1 ، 2 للأديبة فاطمة الفلاحي ، بقلم : الدكتور عادل جوده

تانكا – 1
على كتف الطريق~
شامخة كرأس الرمح،
سفن الخيال!
.
وألقي برأسي على ناي حزين،
أعمى بلا صوت.

تانكا – 2
ملامح الصباح~
عالقة على مدارج الغيم،
انهمار دافئ!
.
اتقاطر على حواشي فنجان قهوة،
بعينين مكتظة بالأرق.
فاطمة الفلاحي – فرنسا

قراءة الدكتور عادل جوده في نصوص “التانكا” للأديبة فاطمة الفلاحي

تمثل التانكا هذا الشكل الشعري الياباني العريق تحديًا للشاعر لاختزال مشهد أو عاطفة عميقة في أبيات قليلة. وقد نجحت فاطمة الفلاحي في هذه المهمة
حيث تقدّم لنا لوحتين شعريتين مكثفتين تحملان طابعًا سورياليًا وتعبيريًا عن حالة نفسية متوترة.

تانكا – ١ : اغتراب الروح وخيبة الأمل
-• المشهد الأولي: العلو والصلابة (البيتان ١-٢):
تبدأ القصيدة بصورة قوية وجارحة: “شامخة كرأس الرمح، سفن الخيال”. “شامخة” و”رأس الرمح” توحيان بالعلو والفخامة والاستعداد للمواجهة، لكنها صلبة وحادة. “سفن الخيال” هي مركبات الأحلام والطموحات البعيدة. يبدو المشهد وكأنه لحظة انطلاق مليئة بالأمل والقوة.

-• المفارقة والانهيار (البيتان ٣-٤):
تأتي الجملة التالية بمثابة صدمة:
“وألقي برأسي على ناي حزين”.
هنا يتحول المسار فجأة من الشموخ إلى السقوط.
فعل “ألقي” يشير إلى الاستسلام والتخلي. “الناي الحزين” هو رمز للشجن والألم والعجز. الرأس، مركز الفكر والفخر، تُلقى على آلة تنعي حالها. الصورة السابقة لـ”سفن الخيال” قد تكون مجرد أوهام تحطمت على صخرة الواقع.

-• الخلاصة المأساوية (البيت ٥):
تبلغ القصيدة ذروة الكآبة مع “أعمى بلا صوت”.
هذه الحالة هي قمة العجز والاغتراب.
“أعمى” عن رؤية الجمال أو المستقبل، و”بلا صوت” عاجز عن التعبير أو الصراخ أو حتى البكاء.
الشاعر موجود جسديًا لكنه معطّل الحواس والفاعلية غارق في صمته المطبق وحزنه الأعمى.

-• القراءة الإجمالية للتانكا الأولى: تصور القصيدة رحلة سريعة من خيال متعالٍ إلى واقع مرير.
إنها تعبير عن حالة من الاكتئاب الشديد حيث تنقلب الطموحات (“سفن الخيال”) إلى مصدر للألم وينتهي الأمر بالذات الشاعرة إلى العزلة والصمت والانسحاق التام.

تانكا – ٢ : قلق الصباح واستعارة القهوة
-• المشهد الضبابي (البيتان ١-٢ ):
تبدأ التانكا الثانية بمشهد غائم وغير واضح: “ملامح الصباح ~ عالقة على مدارج الغيم”. “ملامح الصباح” غير محددة، وكأن الصباح نفسه لا يريد أن يستيقظ بشكل كامل. عبارة “عالقة على مدارج الغيم” تعطي إحساسًا بالتعليق والانتظار والضبابية، مما ينقل شعورًا بالثقل وعدم الوضوح الذي يسبق يومًا متعبًا.

-• التحول الحسي (البيت ٣):
يأتي “انهمار دافئ!” كتحول مفاجئ. “انهمار” قد يكون للأمطار الخفيفة أو لأشعة الشمس لكن وصفه بـ”دافئ” يضفي عليه طابعًا حميميًا لكنه قد يكون ثقيلًا أيضًا.
هذه الحرارة هي الجسر الذي يربط المشهد الخارجي بالحالة الداخلية.

-• استعارة رائعة (البيتان ٤-٥):
هنا تكمن براعة الشاعرة، حيث تنقل هذا “الانهمار الدافئ” من العالم الخارجي إلى عالمها الداخلي عبر فنجان القهوة:
“اتقاطر على حواشي فنجان قهوة”.
القهوة هنا ليست مشروبًا للاستيقاظ فحسب، بل أصبحت وعاءً تحتوي فيه مشاعرها.
“التقاطر” على “الحواشي” يوحي بالبطء والتراكم.

-• خلاصة المعاناة (البيت ٥):
تنتهي القصيدة بالسبب الكامن وراء هذه الحالة: “بعينين مكتظة بالأرق”. العينان “المكتظتان” هما مستودع التعب والسهاد وتراكم الهموم.
الأرق هو الذي يشوه “ملامح الصباح” ويحول قهوة الاستيقاظ إلى وعاء لحالة من الإرهاق المستمر.
الصباح لا يجلب الراحة، بل يجسد التعب الذي لم ينتهِ من الليل.

-• القراءة الإجمالية للتانكا الثانية: تصور القصيدة حالة من الأرق والقلق الوجودي حيث تذوب الحدود بين الداخل والخارج.
فمشاهد الصباح الضبابية تنعكس مباشرة في حالة الشاعرة النفسية ويصبح فنجان القهوة رمزًا ماديًا لتقاطر همومها وإرهاقها الذي لا ينتهي.

خاتمة: الاتساق الفني والموضوعي
القطعتان تشكلان ثنائية متماسكة:
-• التانكا الأولى تتحدث عن الليل الداخلي (العتمة والصمت).
-• التانكا الثانية تتحدث عن صباح لا يحمل راحة (الضباب والأرق).
في كليهما، تبرز الشاعرة مقدرة على استخدام الرمز (الناي، السفن، القهوة) وخلق صور شديدة الكثافة تعبر عن معاناة نفسية عميقة.

اللغة شاعرية وسوريالية في بعض أجزائها مما يضفي غموضًا جميلاً يسمح للقارئ بالمشاركة في تفسير المشاعر. فاطمة الفلاحي تقدم هنا نموذجًا رفيعًا لكيفية توظيف الشكل الشعري الياباني المقتضب للتعبير عن حالات إنسانية معاصرة ومؤرقة.

تحياتي واحترامي