
الكتابة كقدرٍ يبتلع صاحبه: قراءة في نص “بسمة الصباح” بقلم: رانية مرجية
مدخل: حين تتحول الكتابة إلى مصير
في نصها “بسمة الصباح”، لا تقدّم الكاتبة مجرّد مشاهد داخلية عن فعل الكتابة، بل تنسج تجربة وجودية كاملة تُحوِّل الكتابة إلى مصير لا مهرب منه. النص يتجاوز حدود النثر الأدبي ليصبح أشبه ببيان فلسفي يلامس أسئلة الهوية، الغياب، والقدرة الساحرة للغة على إعادة تشكيل الكائن. نحن لا نقرأ نصًا عن الكتابة فحسب، بل نقرأ كتابة تكتب نفسها، وتكتب كاتبتها، وتحوّلها إلى مرآةٍ لحروف لم تولد بعد.
١. سلطة النص وانقلاب الأدوار
منذ البداية، يضعنا النص أمام مفارقة جوهرية: الكاتبة لا تكتب، بل تُكتب. الورق “يكتبها”، القلم “يمسك بها”، والأفكار تتحرك كظلال مستقلة. هنا تتحقق لحظة انقلاب في العلاقة الكلاسيكية بين الكاتب والنص؛ فالكاتب لم يعد سيد المعنى بل أسيره. هذه الفكرة تحيلنا إلى سؤال عميق: هل النصوص التي نكتبها هي انعكاسنا، أم نحن انعكاسها؟
إننا بإزاء نص يذكّرنا بفكرة “موت المؤلف” عند رولان بارت، حيث لا يملك الكاتب الكلمة الأخيرة، بل تظل النصوص أكبر من إرادته. الكاتبة هنا ليست سوى أداة تكتبها اللغة نفسها.
٢. المرآة كفضاء للتشظي والهوية
المرآة في النص ليست مجرد عنصر سردي عابر، بل أيقونة وجودية تحمل وظيفة مزدوجة:
أولًا، هي وسيلة لكشف التشظي الداخلي، حيث الوجه الواحد يتفتت إلى طبقات متراكبة، كل منها يمحو الأخرى.
ثانيًا، هي استعارة لاغتراب الذات في حضرة الكتابة، حيث لا يبقى للكاتب “أنا” ثابتة، بل سلسلة انعكاسات لا نهائية تبحث عن تعريف مستحيل.
بهذا المعنى، تتحول المرآة إلى نصٍ موازٍ يلتهم الكاتبة، ويعيد إنتاجها بلا استقرار. والنتيجة: هوية متحركة، مُزاحة، تتشكل وتُمحى مع كل كلمة.
٣. الكتابة كجسد جديد
أجمل ما في النص أنّه لا يكتفي بالصور المجازية، بل يعيد تشكيل الجسد نفسه كجسد كتابي. الحبر دم، الصفحة روح، الفراغ جلد. هذه الصور الثلاث تُشيِّد ميتافيزيقا كاملة للإنسان الكاتب: إنسان لا يتحدد بجسده العضوي، بل بجسد لغوي يذوب فيه الزمن ويُلغى فيه الموت.
بهذا التصوير، يتحقق اتحاد مطلق بين الكائن والنص: لم يعد هناك فرق بين من يكتب وما يُكتب، بين الدم والحبر، بين الصفحة والروح.
٤. الإيقاع الداخلي وبنية النص
النص مكتوب بلغة نثرية مفتوحة، لكنه يشتغل على الإيقاع كما يفعل الشعر. تكرار الصور (الظلال، المرآة، الورق، الحبر)، التدفق الطويل للجمل، والانفجارات الدلالية كلها تصنع موسيقى داخلية تُضاعف أثر النص.
كما أن النص يتعمد كسر التوقعات: فكل محاولة للإمساك بالمعنى (كالإمساك بالكتاب أو بالكلمة) تنتهي إلى فراغ أو وهم. هذه التقنية تجعل النص أكثر قربًا من التجربة الوجودية: المعنى دائمًا ينفلت، والقبض عليه وهم مستحيل.
٥. المعنى الفلسفي: من الصمت إلى الولادة المستمرة
في جوهره، يطرح النص سؤال الوجود: كيف نعرّف أنفسنا ونحن نذوب في اللغة؟
الصمت في النص ليس غيابًا، بل طاقة متفجرة تلتف حول القلب وتعيده إلى بداياته.
الولادة هنا ليست حدثًا نهائيًا، بل عملية متكررة: كل سطر يتيم يولّد كاتبة جديدة، وكل كلمة تُكتب تعيد تشكيل الهوية.
النهاية ليست موتًا، بل تحوّل دائم. الذات تصبح “مجرد نبضةٍ تبتلع نفسها وتعيد الولادة في كل صفحة”. وهذه الجملة المفتاحية تكشف أن النص ليس عن الكتابة وحدها، بل عن الحياة بوصفها نصًا أبديًا يعيد إنتاج نفسه بلا نهاية.
٦. النص بين المحلي والإنساني الكوني
رغم خصوصيته اللغوية العربية وثرائه المجازي، فإن “بسمة الصباح” نص عالمي في جوهره. فهو يطرح أسئلة إنسانية تتجاوز الثقافات: من أنا؟ هل أملك لغتي أم هي التي تملكني؟ ما معنى أن أذوب في نص لا ينتهي؟
هذا البُعد الكوني يجعل النص جديرًا بالترجمة والانتشار عالميًا، لأنه يلامس قلق الإنسان الحديث أمام هويته المتشظية وعلاقته بالكتابة كفعل وجودي.
خاتمة: النص كمرآة مفتوحة
“بسمة الصباح” نص متفرد في لغته وصوره، لكنه أكثر تفردًا في فكرته الجوهرية: أن الكتابة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي مصير وجودي يعيد تشكيل الكاتب نفسه. إنها عملية ذوبان وانبعاث، حيث لا يبقى للذات إلا أن تتحول إلى نص مفتوح، يتوالد بلا بداية ولا نهاية.
إنها تجربة تذكّرنا بأن الأدب العظيم ليس ما نقوله للغة، بل ما تقوله اللغة لنا، وحين تُعيد تشكيلنا نصبح — كما في نص بسمة الصباح — مجرد “سطر يتيم” يكتب نفسه في صمت الأزمنة.
سطر يتيم
جلستُ أمام طاولتي، والظلال تحوم حولي كأفكار تائهة .
لم أفتح الدفتر بعد، لكن الورق بدأ يكتبني ؛ويسحبني إلى داخله، ويملأ عروقي بحبرٍ يشبه أصواتًا بلا لسان، ويجعلني أشعر أنّ جسدي صفحةٌ تنتظر السطر القادم.
يديّ لم تعد طوع أمري؛ ترتعشان كأوراق خريفٍ في كتابٍ قديم، وكأنّهما تعرفان ما ستكتبان قبل أن أعرف أنا.
والهواء نفسه صار يوشوش وجهي بكلماتٍ لم أنطقها ولا أعرفها، ويحوّل الحروف إلى قيودٍ تلتفّ على معصمي.
غرفتي تغيّرت؛ فالجدران تهمس، والأثاث يتململ، والسقف يلمع كصفحةٍ مقلوبة.
حتى الجوع لم يعد جوعًا كالسابق،وأصبح كتابةً تنهشني من الداخل، وأقلامي المتناثرة صارت رئاتٍ تتنفّس الفراغ من حوالي.
أنظر باستغراب إلى مرآة غرفتي الكبيرة فإذا بها لم تعد ثابتة؛ تتحرك، تبتلعني شيئًا فشيئًا، وتلتهم حدود جسدي، وتعكس وجهي في طبقاتٍ متراكبة تتصارع على تعريف من أكون؟!
كل طبقة تمحو الأخرى، وكل انعكاس ينجو جزئيًا ويختفي في فمها اللامتناهي.
لأصبح كصفحاتٍ تتلاشى، وحروف تتشظى.
وأنا أرى نفسي أذوب بين صمتها المتحرك ونُسخي المتصارعة.
قلمي لم يعد أداةً بيدي؛ فهو الذي يمسكني، ويقودني إلى كلماتٍ تنحتني من الداخل.
وأصابعي تتحوّل إلى أبوابٍ صغيرة، وكل باب يئنّ حين يُفتح.
أما أوراقي فتضحك بصمت حين أغلق عيني عليها، وتبتسم للفراغ كما لو كان الامتلاء مجرد وهم.
دوائر كثيرة من صمت تحيط بقلبي؛ تكبر، وتنفجر، ثم تعود لبداياتها.
وكل نبضة تبدو علامةً مكسورة، وكل نَفَس يذكّرني بأنني أذوب بين كلمات لم تُكتب بعد.
أحاول الإمساك بالكتاب، فينفلتُ مثل سراب، تاركًا في يدي فراغًا دافئًا.
أحاول القبض على كلمة منه، فإذا بي أكتشف أنني الكلمة ذاتها، والجملة العالقة بين بدايةٍ لا تنتهي ونهايةٍ لا تُغلق بنقطة في آخر السطر.
وعندها فهمت:
أنا لستُ ورقةً فقط. فالحبر صار دمي، والصفحة روحي، والفراغ جلدي المترفّع عن الزمن.
واكتشفت بأن النهاية هي انصهار وتحولّ:
أن أكون كل الكلمات التي لم تُقل بعد، وصدىً يتردد في صمت الأزمنة، وانعكاسًا يتحرك مع المرآة، لا بداية لي ولا نهاية.
مجرد نبضةٍ تبتلع نفسها وتعيد الولادة في كل صفحة، وسطرٌ يتيمٌ يكتبني بلا توقّف..
وأصبح أنا المكان الذي يقرأني، والظل الذي يظل يلتفّ حولي حتى يغدو الكتابُ نفسي.
بسمة الصباح