
ذكرى الوفاء لروح المؤسسين ، الدكتور حيدر عبد الشافي والبروفيسور إدوارد سعيد… جذران راسخان في مسيرة المبادرة الوطنية الفلسطينية ، بقلم: المهندس غسان جابر
تمرّ علينا ذكرى رحيل اثنين من القامات الوطنية والفكرية التي شكّلت علامات فارقة في التاريخ النضالي لشعبنا الفلسطيني: الرفيق الدكتور حيدر عبد الشافي، الطبيب والمناضل والمربي، الذي مثّل صوت الضمير الفلسطيني، والرفيق البروفيسور إدوارد سعيد، المفكر العالمي والناقد الأدبي، الذي أعاد تقديم الرواية الفلسطينية إلى العالم بلغته الأكاديمية الرصينة وصوته الصادق. كلاهما، من موقعه، كان مؤسسًا راسخًا في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، التي جاءت لتجسد البديل الوطني الديمقراطي، وترفع شعار النضال الشعبي الديمقراطي في مواجهة الاحتلال والاستبداد معًا.
الدكتور حيدر عبد الشافي… الطبيب الذي داوى جراح الوطن
لم يكن عبد الشافي مجرد طبيب، بل كان ضميرًا حيًّا لفلسطين.
منذ بداياته، اختار أن يضع علمه وخبرته الطبية في خدمة شعبه، فأسس المراكز الصحية، ونظم حملات الإغاثة، وظل وفيًا لمبدأ أن الصحة حق إنساني ووطني. في السياسة، كان عبد الشافي رمزًا للوضوح والنزاهة، رفض المساومات، ودعا دومًا إلى وحدة الصف الوطني، ورفض الاستفراد بالقرار.
عندما شارك في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، لم يتنازل عن ثوابت شعبه، وقال كلمته الشهيرة بأن أي سلام لا يقوم على العدالة وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره هو مجرد وهم. بذلك، سجّل نفسه في وجدان الفلسطينيين كصوت لا يساوم، وكرجل جمع بين الطب والسياسة في معركة واحدة من أجل الكرامة.
إدوارد سعيد… المثقف المقاوم الذي أوصل صوت فلسطين للعالم
أما الرفيق البروفيسور إدوارد سعيد، فقد خاض معركة أخرى، موازية ولكنها مكملة، على الساحة الدولية والأكاديمية. أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا الأمريكية، وواحد من أبرز النقاد الثقافيين في القرن العشرين، جعل من قلمه ومنبره الجامعي سلاحًا لمواجهة الرواية الصهيونية التي حاولت طمس حقيقة فلسطين.
كتابه “الاستشراق” لم يكن مجرد عمل أكاديمي، بل كان ثورة فكرية عالمية أعادت الاعتبار لثقافات الشعوب المستعمَرة، وكشفت آليات التلاعب الغربي بصناعة صورة “الشرق”. أما في القضية الفلسطينية، فقد كتب ودافع وجادل، ففضح الاحتلال، وكشف زيف الدعاية الصهيونية في الإعلام الغربي.
الأثر الأكبر لسعيد تجلّى في الحراك الجامعي في الولايات المتحدة وأوروبا. فقد ساهم، بكتاباته ومحاضراته، في بلورة جيل كامل من الطلبة والأكاديميين المناصرين لفلسطين. ومن خلاله، انطلقت حركة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لاحقًا، وتكوّنت شبكات من الطلبة الفلسطينيين والعرب وحلفائهم، الذين حوّلوا الجامعات إلى ساحات مواجهة مع اللوبي الصهيوني.
معًا… عبد الشافي وسعيد يؤسسان المبادرة الوطنية الفلسطينية
عندما التقيا على فكرة تأسيس حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، كان يجمعهما الإيمان بأن النضال ليس حكرًا على البندقية وحدها، ولا على الدبلوماسية وحدها، بل هو تكامل بين المقاومة الشعبية، والوعي السياسي، والعمل الفكري والثقافي.
عبد الشافي جسّد خطّ النضال الشعبي داخل الوطن، بين الناس وفي المخيمات والمستشفيات.
سعيد حمل فلسطين إلى المنابر العالمية، إلى الجامعات، إلى الصحف الكبرى، ليؤكد أن فلسطين ليست قضية محلية، بل قضية إنسانية عادلة تخص العالم بأسره.
هكذا، أرسيا معًا قاعدة حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية: حركة تحرر ديمقراطية، تعتمد على الشعب أولًا، وتستمد قوتها من وحدته، ومن عدالة قضيته، ومن قدرته على مخاطبة العالم بلغة الحق والحرية.
إرثهما الحيّ… مشعل لا ينطفئ
اليوم، وفي ذكرى رحيلهما، نستحضر إرثهما لا كذكرى حزينة، بل كمنارة للعمل.
من عبد الشافي نتعلم أن القيادة الحقيقية هي الصدق مع الشعب.
ومن سعيد نتعلم أن المعركة على الرواية لا تقل أهمية عن المعركة على الأرض.
إن الوفاء لهذين القائدين لا يكون بالكلمات وحدها، بل باستمرار المشروع الوطني الديمقراطي الذي آمن به كل منهما، وبتجديد الالتزام بحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية كإطار جامع للنضال الشعبي والسياسي والفكري.
نقول: في رحيلهما، تركا فراغًا كبيرًا، لكنهما في الحقيقة خلّفا إرثًا أكبر: إرث الضمير والوعي.
سلامًا لروح الدكتور حيدر عبد الشافي، الطبيب المناضل.
سلامًا لروح البروفيسور إدوارد سعيد، المثقف المقاوم.
سيبقيان معًا، في ذاكرة فلسطين، وجهين لعملة واحدة: عملة الحرية والكرامة الوطنية.
- – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.