كيف تصبح ناقدًا ؟ ، بقلم : رانية مرجية

كيف تصبح ناقدًا؟ بقلم: رانية مرجية

أن تكون ناقدًا لا يعني أن تحمل مقصًا بيدك لتقصّ نصًا أو عملًا فنيًا. النقد ليس هدمًا ولا ثأرًا، بل هو بحث صادق عن المعنى. أن تصبح ناقدًا يعني أن تملك عينًا ثالثة، ترى ما وراء الكلمة وما وراء اللون، وتسمع ما لم يُقَل بين السطور.

الناقد الحقيقي يبدأ من ذاته. من جرأته أن ينظر في مرآته الداخلية دون أن يخاف. من قدرته على نقد نفسه أولًا: أوهامه، ضعف روحه، تردده، وحتى كبرياؤه. فمن لم يجرؤ على أن يعرّي نفسه أمام ذاته، لن يجرؤ أن يقرأ بصدق نصّ الآخر. النقد مرآة، وأول من يواجهها هو الناقد ذاته.

ثم تأتي المعرفة. ليس بالمعنى الأكاديمي الجاف فقط، بل بالمعنى الواسع للحياة. أن تقرأ كتابًا وتسمع حكاية امرأة مجهولة في الشارع، أن تتأمل وجوه الناس في الحافلة كما تقرأ رواية عظيمة. المعرفة هنا ليست تكديسًا للمعلومات، بل حساسية تُنبت بداخلك قدرة على الربط بين الخاص والعام، بين ما هو فردي وما هو إنساني.

الناقد لا يكتفي أن يقول: “هذا جميل” أو “هذا رديء”. الجمال ليس زينة سطحية، والقبح ليس خطأً لغويًا فقط. الناقد يسأل: ماذا يقول هذا النص عن الإنسان؟ عن وحدته؟ عن فرحه؟ عن عذابه؟ ثم يسأل: ماذا يقول عني أنا؟ عن خوفي، عن شجني، عن لحظة ضعفي التي لم يلمسها أحد.

النقد أيضًا شجاعة. شجاعة أن تُحب نصًا لا يحبه أحد، وأن تُواجه نصًا يصفق له الجميع. شجاعة أن تقول كلمة حقّ وأنت تعرف أنها لن تُرضي أحدًا. لكن الشجاعة هنا لا تعني القسوة، بل الصدق. فالناقد ليس جلادًا، بل مُرافقًا، يضيء الطريق للكاتب وللقارئ معًا.

والأهم من كل ذلك، أن الناقد لا يكتب ليُظهر نفسه، بل ليكشف الحياة. النقد في جوهره سؤال فلسفي: ما الذي يجعلنا بشرًا؟ لماذا نكتب؟ لماذا نرسم؟ لماذا نصرخ من خلال الفن بدل أن نصمت؟ كل عمل إبداعي هو محاولة للإجابة، وكل نقد صادق هو محاولة للغوص أعمق في هذا السؤال.

أن تصبح ناقدًا، يعني أن تتعلّم الإصغاء. أن تنصت للنص، للمؤلف، للقارئ، للعالم، ولصوتك الداخلي. وأن تفهم أن النقد ليس نهاية الطريق، بل بداية رحلة أطول من النص ذاته.

النقد ليس مهنة، بل أسلوب حياة. هو فن الإصغاء، وفن الحُبّ، وفنّ السؤال الذي لا يملّ من البحث. وفي النهاية، الناقد الحقيقي هو ذاك الذي لا يتوقف عن الدهشة، ولا يتوقف عن طرح السؤال: ماذا وراء هذا؟