4:10 مساءً / 9 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

“خنجر آخر في خاصرة الجرح” ، بقلم : د. منى ابو حمدية

“خنجر آخر في خاصرة الجرح” ، بقلم : د. منى ابو حمدية

تلك المدينة التي تُشبه جرحًا مفتوحًا على صفحة البحر، لم يكفها أن تتجرع القصف ككأسٍ يومي من السم، حتى باغتها من الداخل خنجر آخر: فوضى تنهب ما تبقى من فتات الحياة، وتحوّل الجرح إلى نزيف لا يندمل.

في الأزقة الضيقة التي صارت أضلاعًا لعتمةٍ ممتدة، تُسمع أصوات الصراخ تختلط بدويّ الأقدام. ليس المشهد غزوًا لقصورٍ مترفة، بل اقتحام لبيوتٍ مهدّمة، لعلب صدئة من الطعام تُعتبر كنزًا. من يسرق رغيفًا هنا لا يسرق الخبز، بل يسرق طفولةً جائعة، وأمومةً مكلومة، وأملًا بالكاد ظلّ يتنفس.

في غزة، للخبز ذاكرة. رغيفٌ صغير صار يساوي حياة، وفتاتٌ من الطحين يُشبه وثيقة بقاء. كان الخبز يومًا طقسًا يوميًا عابرًا، لكنه اليوم معركة تُخاض في طوابير طويلة، معركة لا ينتصر فيها أحد سوى الانتظار القاسي. الأطفال يحفظون شكل الرغيف أكثر مما يحفظون حروف الألفباء، ويعدّونه غائبًا حاضرًا في كل أحلامهم.

الجوع ليس صرخة في البطن فقط، بل حريقٌ صامت يلتهم ملامح الإنسان. الأجساد تترنح كالظلال الواهنة، والعيون الغائرة تُشبه مصابيح مطفأة. أطفال غزة ينامون محمولين على أضلاعهم النحيلة، كأن الجوع صار بطانية قاسية تلتف حولهم. الجوع هنا لا يُميت فجأة، بل يقطف الروح ورقةً ورقة، ويترك الجسد شجرةً جرداء في عاصفة مستمرة

حين يغيب الأمان، تُصبح البيوت هياكل بلا روح. الأبواب المخلّعة تُشبه قلوبًا عارية، والنوافذ المحطّمة لا تحجب البرد ولا الرعب. كل صوت مجهول في الليل يتحوّل إلى تهديد، وكل ظل عابر يتحول إلى وحش ينهش ما تبقى من راحة البال. كأنّ غزة مدينة بلا سور ولا حارس، متروكة لأنياب الفوضى تنهشها كما تنهشها نيران الحرب

المشهد بات رمادياً : سماء غبراء، وجوه شاحبة، وجدران مغبّرة، حتى الأمل صار رماديًا كظل بعيد. لا لون يجرؤ على كسر هذا الطوق الرمادي سوى حمرة الدم التي تتساقط كل يوم. غزة تُشبه لوحة رسمت بالفحم على جدارٍ متصدع، لوحة لا تمحوها الريح ولا يغسلها المطر

علّمنا الاحتلال أن الجرح قدر، وأن الصمود فريضة، لكنّ الفوضى من الداخل طعنة أكثر إيلامًا، لأنها تأتي من اليد التي يُفترض أن تداوي. هكذا تغدو غزة بين فكي الرحى: مطرقة الخارج التي تسحقها، وسندان الداخل الذي يُرهقها. ومع ذلك، ورغم كل طعنات الخراب، يبقى شيء في غزة لا يُنهب ولا يُسرق: إرادة الناس التي لا تنكسر، وكرامتهم التي لا تُباع ولا تُشترى

قد تبدو الصورة ملبّدة بالرماد، مثقلة بالدمع والجوع والسطو، لكن وسط الركام دائمًا هناك ما يتشبث بالحياة. زهرة صغيرة تشق طريقها بين الحجارة، أو طفل يضحك رغم خوائه، أو أمّ تشعل شمعة في العتمة، وكأنها تضيء الكون بأسره.
فحتى لو صارت الفوضى خنجرًا آخر في خاصرة الجرح، فإن غزة ستبقى تنزف صمودًا لا يُستأصل .

شاهد أيضاً

النائب العام المستشار أكرم الخطيب يلتقي رئيس هيئة مكافحة الفساد الدكتور رائد رضوان

النائب العام المستشار أكرم الخطيب يلتقي رئيس هيئة مكافحة الفساد الدكتور رائد رضوان

شفا – التقى النائب العام المستشار أكرم الخطيب برئيس هيئة مكافحة الفساد الدكتور رائد رضوان، …