
ما العمل أمام حرب الإبادة وتصفية القضية الفلسطينية ؟ بقلم : محمد التاج
لا يمر يوم على شعبنا الفلسطيني إلا ويتأكد أن المشروع الصهيوني لم يكتفِ بسرقة الأرض وتهجير الإنسان، بل يواصل حربه المفتوحة لتصفية الحلم الوطني برمته. في غزة ترتكب جريمة الإبادة أمام أعين العالم، حيث الموت صار سياسة معلنة: تجويع، قصف، تهجير، حصار خانق يهدف إلى اقتلاع الجذور واجتثاث كل مقومات الحياة. وفي الضفة الغربية يتسارع الاستيطان بصورة محمومة، تطرح مشاريع الضم، ويسوق علنا ما يسمى “إمارة الخليل” كبديل وهمي لدولة فلسطينية، في سياق تفكيك الضفة وتحويلها إلى جزر محاصرة بلا سيادة ولا أفق.
ولم يكتفِ الاحتلال بذلك، بل مارس كل أشكال القرصنة المالية والسياسية: سرقة أموال المقاصة، تجويع الموظفين وأسرهم، إغلاق أبواب الرزق أمام العمال الذين حرموا من العمل داخل أراضي 48، وتجفيف مصادر الدخل لخلق مجتمع مرهق، مشغول بالبحث عن لقمة العيش. أضيف إلى ذلك سياسة التعطيش الممنهجة، السيطرة على الآبار وتخريبها، إفساد الزراعة، تعطيل المدارس، ضرب المسيرة التعليمية، ليكتمل مشهد الإبادة البطيئة التي لا تستهدف البشر فقط، بل الذاكرة والهوية والمستقبل.
أمام هذا الجحيم، يطرح كل فلسطيني السؤال الأشد مرارة: ما العمل؟ هل تكفينا بيانات الشجب والاستنكار؟ هل ننتظر معجزة من مجتمع دولي صامت متواطئ، أو من نظام عربي عاجز يكتفي ببيانات القمم؟ التجربة أثبتت أن انتظار الآخرين لا يجلب لنا إلا مزيدا من الخيبات. إذا، وحده الشعب الفلسطيني، بمؤسساته وقواه وطاقاته ودماء شهدائه، هو القادر على صياغة معادلة البقاء والمواجهة.
المطلوب قبل كل شيء هو إعادة الاعتبار لفكرة الوحدة الوطنية، ليس كشعار، بل كفعل يومي عملي. ما يواجهنا أكبر من أي فصيل أو جهة، ومصيرنا جميعا على المحك. وحدة دماء غزة والضفة والقدس والشتات ليست ترفا سياسيا، بل شرط وجودي لإنقاذ المشروع الوطني. فلا يمكن أن نقاوم الإبادة في غزة بينما تدار الضفة بمنطق الانتظار، ولا يمكن أن نتصدى للاستيطان ونحن غارقون في صراعات جانبية.
كما أن إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني باتت ضرورة عاجلة، على قاعدة المقاومة والصمود والتمسك بالحقوق التاريخية غير القابلة للتصرف. لا بد من تجاوز أوهام “السلام الاقتصادي” و”التسهيلات الإنسانية” التي لم تكن إلا أفخاخا لإدامة الاحتلال. البديل هو رؤية وطنية شاملة: مقاومة شعبية، تعزيز صمود الناس في أرضهم، دعم الزراعة والاقتصاد المقاوم، حماية التعليم، وتشكيل جبهة مجتمعية عريضة تتصدى لمخططات التهجير والتفكيك.
العمل أيضا يعني كسر جدار العزلة الدولية. صحيح أن موازين القوى مختلة، لكن معركة الوعي العالمي ليست خاسرة. صور الإبادة في غزة هزت ضمير شعوب العالم، وأطلقت أكبر موجة تضامن في التاريخ المعاصر. المطلوب تحويل هذه الموجة إلى قوة ضغط سياسية وقانونية مستمرة، عبر محاكم دولية، وحملات شعبية، وتحالفات مع حركات التحرر والعدالة حول العالم. فالقضية الفلسطينية ليست شأنا محليا، بل قضية حق وحرية تمثل اختبارا للإنسانية كلها.
وفي الداخل، لا بد من إعادة الثقة للشعب، عبر شفافية القيادة ومصارحتها لجماهيرها. إن المواطن الفلسطيني الذي يواجه الموت والاقتحامات والحصار والتجويع في كل محافظات الوطن، يستحق قيادة تليق بتضحياته، قيادة لا تخاف من اتخاذ قرارات كبرى تعيد رسم المسار.
لقد جربنا طريق المفاوضات، وعايشنا وهم التسويات، ورأينا كيف حول الاحتلال كل خطوة إلى فرصة لتوسيع مشروعه الاستيطاني. واليوم، لا يبقى أمامنا إلا خيار المقاومة الشعبية والسياسية والاقتصادية والثقافية بكل أشكالها، خيار التمسك بحق العودة، ورفض مشاريع التوطين والتهجير، خيار حماية الأرض مهما كان الثمن.
ما العمل إذن؟ العمل هو أن نستعيد البوصلة: فلسطين كاملة غير منقوصة، أرضا وهوية وذاكرة. العمل هو أن نحمي دماء الشهداء من أن تتحول إلى مجرد أرقام في نشرات الأخبار، وأن نصون تضحيات الأسرى والجرحى من أن تختزل في بيانات التضامن. العمل هو أن نصنع مستقبلا يليق بأطفالنا، فلا نتركهم رهائن الجوع والخوف والجهل.
إن الشعب الذي صمد أكثر من مئة عام أمام كل أشكال القهر … قادر على أن ينهض مجددا، بشرط أن يتجاوز حالة الانتظار، ويثق بنفسه وبقواه الحية. فلسطين لن تسقط، وقضيتها لن تصفى، طالما بقي فيها من يؤمن بأن الحرية حق لا يسقط بالتقادم، وأن الكرامة أثمن من الحياة تحت الاحتلال.
لهذا كله، فإن الجواب على سؤال “ما العمل؟” هو أن نتحرك نحن، أن نعيد الإمساك بمصيرنا، وأن نجعل من دمائنا وصمودنا جسرا نحو الحرية، لا وقودا لمزيد من المساومات. مشروعنا الوطني لن يحمى إلا بنا، وبوحدتنا، وبإرادتنا التي لا تنكسر.