
العودة إلى فلسطين ، بقلم : محمد علوش
خرجنا من فندق نيو بارك هوتيل في عمّان مع أول شعاع شمس يلوح على المدينة، ومع كل خطوة على الرصيف كان قلبي يخفق بشوق العودة؛ فالشوارع ما زالت تنبض بحياة الصباح، وأصوات السيارات تختلط بضحكات المارة، لكن في داخلي كان كل شيء يهمس باسم فلسطين.
انطلقت السيارة نحو الغرب، تشق الطريق بين التلال المتموجة لعمّان، والجبال العالية التي ترسم أفق المدينة كحراس صامتين على الزمن، وكل منعطف يحكي تاريخ المكان، وكل وادٍ يهمس بالحنين الذي لا يهدأ.
مع اقترابنا من الأغوار، بدأت فلسطين تظهر في الأفق كحلم بعيد يبدأ بالتكوّن، ونهر الأردن يلمع بين التلال كخيط فضي، متعرجاً بخفة وعنفوان، شاهداً على حضارات مرت عبر الزمن، وعلى دموع أولئك الذين حلموا بالعودة. وعلى يساره، البحر الميت، ساكنٌ هادئ لكنه يختزن أسرار التاريخ، كمرآة تعكس وجوهنا المرهقة، وتذكرنا بأن الأرض لا تنسى أبناءها.
كان الطريق إلى الجسر مليئاً بالتوتر، ومع كل ميل يزداد شعورنا بالمسؤولية والصبر، وهناك، على معبر الاحتلال، تتحول الحرية إلى اختبار، ويصبح الوقت ثقيلاً على وجوه المنتظرين؛ طوابير طويلة من العائدين، ووجوه شاحبة، وأعين تحمل الحنين والقلق، وانتظار لا نهاية له، وكل خطوة هنا تتطلب عزيمة، وكل لحظة من التأخير تزيد من شعورنا بالمعاناة، وتجعل الفرح بالوصول أكثر عمقاً حين يتحقق.
بعد العبور، شعرت وكأن الأرض نفسها تفتح ذراعيها، والغروب يلوّن الجبال المحيطة بألوان دافئة، والمزارع الممتدة على جانبي الطريق تبدو وكأنها تستقبلنا بالحرارة والضوء.
أشجار النخيل في أريحا تلوح لنا من بعيد، كأنها ترحب بالآتين من بلاد الغربة، والهواء يحمل عبق التاريخ، عبق الحضارات التي مرت على هذه الأرض منذ أقدم الأزمنة.
مدينة أريحا، مدينة القمر، تستقبلنا بصمتها العميق وجمالها الأزلي، والأرض هنا تتحدث بلغة العطاء والصبر، والجبال المحيطة تبدو كأنها تحفظ لنا السلامة، ونهر الأردن يمر بهدوء كأنه يهمس: لقد عدتم أخيراً، ولو بعد طول انتظار.
كل منظر طبيعي، كل جبل، وكل وادٍ، وكل شجرة، وكل شعاع شمس، وكل قطرة ماء، كانت تعيد لي شعور الانتماء العميق، شعور بأن العودة ليست مجرد عبور، بل ولادة جديدة على أرض فلسطين.
وفي تلك اللحظة، شعرت أن الرحلة بكل صعوباتها، بكل الانتظار والتوتر والمعاناة، كانت تستحق كل ثانية، وأن فلسطين، مهما طالت الغربة، تبقى البيت الذي لا يغيب عن القلب، أرضاً للحنين، وعنواناً للأمل الذي لا يموت.