
غزة اللقمة التي ستقف في حنجرة ترامب ، بقلم : هاني ابو عمرة
حين كشفت واشنطن بوست عن وثائق الخطة التي صاغها ثلاثي الشر جاريد كوشنر وتوني بلير ورون ديرمر في أعقاب اجتماعهم مع ترامب في البيت الأبيض، بدا المشهد وكأننا أمام نسخة محدثة من كل المشاريع القديمة التي استهدفت القضية الفلسطينية منذ النكبة. الوثائق التي امتدت إلى ثمانية وثلاثين صفحة لم تكن سوى إعادة إنتاج لفكرة التصفية تحت غطاء “الإعمار” و”الاستثمار”، لكنها حملت هذه المرة جرأة أكبر على قلب الحقائق، إذ تطرح غزة بوصفها عبئاً إنسانياً ينبغي التخلص منه عبر التهجير المنظم، والمال هو الطعم، والمشاريع الوهمية هي الغطاء، بينما الحقيقة أن الهدف هو تصفية القطاع من أهله وتحويله إلى فراغ استراتيجي يستثمر أمنياً لصالح إسرائيل.
الفلسطيني الذي يعيش محرقة غزة المستمرة لا يمكن أن يقنعه كوشنر ولا غيره بأن خمسة آلاف دولار تكفي لاقتلاعه من ارضه. هذا الشعب الذي أسقط “مشروع روجرز” في السبعينيات، وواجه “صفقة القرن” في ولاية ترامب الاولى ، وتمسك بحقه رغم محاولات التوطين في سيناء والعراق والأردن، يدرك أن أي خطة تحمل عنوان “التسهيل الإنساني” ليست سوى وجه آخر للنكبة. إن غزة اليوم ليست مجرد قطاع محاصر؛ إنها رمز لكرامة أمة كاملة، خط الدفاع الأخير عن الهوية الفلسطينية، والعقدة التي تتكسر عندها كل مشاريع الهندسة الجيوسياسية التي تتصور أن الإنسان الفلسطيني قابل للتذويب.
لكن أخطر ما في هذه الخطة أنها لم تتوجه إلى الفلسطينيين فقط، بل أرادت الزج بمصر مباشرة في قلب الكمين. كوشنر وبلير وديرمر ومن خلفهم طبعا نتنياهو لم يخفوا رغبتهم في وضع الأميركيين على حدود مصر الشرقية، في إعادة صياغة لدور سيناء بما يجعلها بوابة انتقال سكاني وممراً إنسانياً مفترضاً. هذا ليس جديداً، فقد طرح في خمسينيات القرن الماضي، ورفضه عبد الناصر إدراكاً لكونه تهديداً وجودياً للأمن القومي المصري. واليوم، يعاد السيناريو لكن بغطاء أميركي أوسع ومغريات اقتصادية أكبر. قبول مصر بهذا السيناريو يعني ببساطة تفكيك عمقها الاستراتيجي وتحويل سيناء إلى ساحة لتصفية القضية الفلسطينية. ورفضها، وهو ما أعلنت عنه القاهرة بوضوح، يعني الدخول في مواجهة مفتوحة مع واشنطن وتل أبيب. بهذا المعنى، تسعى الخطة إلى جر مصر إلى حافة الاستنزاف، وإلى وضعها أمام خيارين كلاهما خطير.
أما الأردن، فهو المستهدف من زاوية أخرى. كل محاولة لفتح ملف التهجير تعيد إلى السطح شبح “الوطن البديل”، حيث تتحول الضفة الغربية إلى مستعمرة إسرائيلية مكتملة، بينما يلقى بالفلسطينيين في حضن الأردن لتفكيك هويته السياسية وإسقاط نظامه من الداخل. عمّان تدرك ذلك، رغم هشاشتها الاقتصادية واعتمادها على المعونات الأميركية، ولذلك كان موقفها رافضاً بشكل حاسم. الأردن يعلم أن أي قبول بهذا السيناريو هو انتحار وطني مؤجل.
ومع ذلك، فإن الأخطر يكمن في الضفة الغربية حيث يمضي الاحتلال بموازاة خطة غزة في تنفيذ مشروع الضمّ الكامل. الاستيطان يبتلع الأرض، والقدس تعزل، والأغوار تغلق، والسلطة الفلسطينية تقزم إلى جهاز إداري أمني محدود. هكذا يراد للقضية الفلسطينية أن تختزل: غزة كيان معزول يدار بالمال، والضفة فضاء مستعمراً ملحقاً بإسرائيل، والشتات تحت رحمة مشاريع التوطين. إنها تصفية شاملة وليست مجرد تسوية سياسية.
لكن هذه الخطة، مهما زينت، ليست سوى وصفة للفوضى. فهي لا تستفز الفلسطينيين وحدهم، بل تفتح جبهات استراتيجية أوسع. مصر ترى فيها تهديداً لحدودها، والأردن يدرك أنها وصفة لتفكيكه، ولبنان يخشى إعادة توطين جديدة تطوي حق العودة، وحتى دول الخليج، التي يراد لها تمويل هذا المشروع، تفهم أنها ستجر إلى معركة ليست معركتها، وأنها ستتحمل تكلفة سياسية وشعبية عالية لا تستطيع تبريرها. وبقدر ما قد يغري بعضهم الحديث عن “مليارات الإعمار”، إلا أن الحقيقة أن هذه المليارات ستتحول إلى حبل مشنقة سياسي لكل من يشارك فيها.
أما على المستوى الدولي، فإن الخطة تضع الولايات المتحدة في مواجهة العالم بأسره. أوروبا، التي بدأت تتململ من السياسات الإسرائيلية، لا تستطيع أن تقبل علناً بخطة تقوم على التهجير القسري، وهي التي تعرف أن القانون الدولي يعتبر الترحيل الجماعي جريمة حرب لا تسقط بالتقادم. روسيا، التي تتطلع إلى استعادة نفوذها في الشرق الأوسط، ستجد في الخطة فرصة ذهبية لتقديم نفسها حامياً للشرعية الدولية ولمظلومية الفلسطينيين، فتستثمر ذلك في تعزيز حضورها الإقليمي. الصين، من جهتها، التي تربط مصالحها بمبادرة “الحزام والطريق”، تنظر بعين الريبة إلى مشروع يهدد استقرار المتوسط وساحله الشرقي، وتدرك أن أي انفجار جديد في غزة سيعرقل تجارتها ومصالحها الاستراتيجية. حتى الأمم المتحدة ومؤسساتها القانونية ستجد نفسها مضطرة، ولو ببيانات شكلية، إلى مواجهة مشروع يعيدنا إلى منطق التطهير العرقي في زمن لم يعد يقبله الرأي العام العالمي.
الولايات المتحدة هنا ليست في موقع اللاعب المهيمن بقدر ما هي في موقع المغامر الأعمى. فبينما تظن أن بإمكانها أن تشتري الفلسطينيين بالمال، وأن تدفع العرب إلى الرضوخ بالضغط، وأن تقنع العالم بأن “غزة الجديدة” ستكون جنة استثمارية، فإنها في الواقع تضع نفسها في مواجهة معايير القانون الدولي، وتزيد من عزلتها الأخلاقية، وتفتح الباب واسعاً أمام منافسيها الدوليين لتعزيز حضورهم في المنطقة. إنها خطة لا تحل مشكلة، بل تخلق مشكلات جديدة: تهدد أمن مصر والأردن، تفجر الوضع في الضفة، تفاقم عزلة إسرائيل، وتضعف المصداقية الأميركية.
التاريخ يوضح أيضاً أن هذه المشاريع ليست جديدة، فمحاولات تقسيم فلسطين وتهجير أهلها بدأت منذ وعد بلفور، وتواصلت عبر سايكس بيكو، ثم مشاريع التوطين في خمسينيات القرن الماضي، و”صفقة القرن” الأخيرة. كل هذه التجارب فشلت أمام إرادة الفلسطينيين وصمودهم، وأمام رفض الدول العربية لمخططات التهجير، وهو ما يعطي مؤشراً واضحاً على أن خطة كوشنر وبلير وديرمر لن تكون استثناء. فالفلسطينيون لم يرفضوا مجرد السياسات، بل رفضوا منطق الابتزاز والتفريط، ونجحوا عبر النضال والصمود في إفشال كل محاولات محو هويتهم وحقهم في العودة.
غزة، بدمائها وركامها وصمود سكانها، تثبت أن الشعب الفلسطيني ليس للبيع، وأن المشاريع مهما بدت ذكية وممولة، ستتحطم على صخرة إرادته، وعلى رفض المجتمع العربي، وعلى معايير القانون الدولي. بل إن هذه الخطة، بقدر ما تكشف عن النوايا الاستعمارية الجديدة، توحد الفلسطينيين والدول العربية في مواجهة مشروع لا علاقة له بالسلام، بل بمحو فلسطين من الخريطة.
غزة لن تكون لقمة سائغة في فم ترامب ولا نتنياهو ولا كوشنر ولا بلير ولا ديرمر . إنها اللقمة التي ستقف في حنجرتهم، وتذكرهم بأن الشعوب لا تشترى، وأن التاريخ لا يملى من غرف البيت الأبيض. بل إن غزة، بقدر ما هي محاصرة ومجروحة، تكشف للعالم أن المشروع الاستعماري مهما غيّر أدواته، يظل عاجزاً عن كسر إرادة شعب قرر أن يقاتل حتى آخر نفس. الخطة الشيطانية التي أرادوها مدخلاً لإنهاء القضية ستتحول إلى سبب جديد لوحدتها، ودليلاً آخر على أن فلسطين ليست ملفاً يُغلق، بل جرحاً مفتوحاً في الضمير الإنساني، ومِحكاً لاختبار صدقية النظام الدولي بأسره.
وهكذا، فإن هذه الوثيقة التي أرادت واشنطن تسويقها كخطة للسلام والإعمار، ليست سوى اعتراف ضمني بأن المشروع الصهيوني لم يعد قادراً على فرض نفسه إلا عبر الهروب إلى الأمام. إنها إعلان ضعف لا إعلان قوة، لأنها تكشف أن إسرائيل لا تستطيع أن تعيش مع غزة، ولا تستطيع أن تتعايش مع الضفة، ولا تستطيع أن تواجه الفلسطيني إلا عبر المال والتهجير. وفي النهاية، فإن كل هذه المشاريع ستتبدد كما تبددت من قبلها، وستبقى فلسطين، بدماء أبنائها وصمود أهلها، حقيقة عصية على الإلغاء، وجداراً يتحطم عليه غرور القوة.