
قراءة نقدية وجدانية عميقة في نص حكاية ضوء في حضن بعيد ، للمبدعة ريما حمزة ، بقلم : رانية مرجية
هذا النص ليس مجرد قصيدة، ولا هو مجرد رثاء لشهيد، بل هو بناء سردي شعري متكامل يقيم حوارًا بين الحياة والموت، بين الغياب والحضور، بين الصمت والنداء. إنه نص يفتح أمام القارئ عالماً تراجيدياً مضيئًا بالرموز، حافلاً بالصور الموحية، وكأن الكاتبة تسكب فيه روحها وتكتب بدم القلب لا بحبر القلم.
البنية الثلاثية: سرد ما قبل وما بعد
النص يتوزع على ثلاث ليالٍ: الليلة التي قُتل فيها، الليلة التي سبقت، و الليلة التي تلت مقتله.
هذا التقسيم الزمني يمنح النص إيقاعًا دراميًا متدرجًا، ويحوّله إلى حكاية ذات بداية وذروة وخاتمة. وكأننا أمام مسرح شعري، تُضاء فيه المشاهد بجرعات ضوء وظلال، كل مقطع يُهيئ للمشهد التالي.
• في الليلة التي سبقت: نلمس قلق الروح، الأسئلة التي ترتجف، والتهيؤ للغياب. هنا يختبر البطل موته على مراحل، كمن يتدرّب على الرحيل.
• في ليلة مقتله: الذروة تتجلى. حضور الأم، حضور الابن، وغياب الشهيد الذي يتجلّى بظلّ ممتد وجسد يئن تحته العدم. هنا النص يبلغ أقصى وجعه.
• في الليلة التي تلت مقتله: يتحول الشهيد من فرد إلى رمز، من جسد إلى راية، من إنسان إلى ذاكرة تتناقلها الأرض والأشجار.
بهذا البناء، النص يخرج من الرثاء المباشر ليتحول إلى طقس، إلى سردية أسطورية عن الشهيد الفلسطيني الذي يموت واقفًا كالنخلة.
اللغة والصورة الشعرية
النص يفيض بالصور الكثيفة، التي تمزج بين الحسيّ والرمزي:
• “ظله يمتد فوق الأرض كجرح لم يلتئم”: صورة ترمز إلى الجرح الجمعي، إلى النزيف المستمر.
• “أمه تمشي إليه من آخر الضوء تحمل كوب شاي لا يبرد”: صورة مشهدية مذهلة، تُعيد الشهيد إلى تفاصيل الحياة اليومية البسيطة، فتمنحه حياة بعد الموت.
• “ابنه يدور حوله كما تدور الفصول حول جذع مكسور”: هنا يتحول الفقد إلى دورة كونية، موت الأب يتجذر في الزمن كجزء من الطبيعة.
اللغة تتحرك بين الواقعي والميتافيزيقي، بين حضور الأشياء (الشاي، الغبار، الجذع) وبين المجاز الكوني (الظل، النشيد، الراية). هذه المزاوجة تجعل النص نابضًا بالوجدان والرمزية معًا.
الثيمة المركزية: الشهيد بين الإنسان والأسطورة
النص يرفض أن يكتب الشهيد كجسد صامت، بل يعيد تشكيله كصوت باقٍ، كظل لا يُؤرَّخ، كراية تُرفع إلى السماء. هذه النقلة من الخاص إلى العام، من الفردي إلى الجمعي، تجعل النص وثيقة وجدانية سياسية في آن واحد.
فالشهيد هنا ليس ميتًا، بل “مائدة وبندقية”، كما تقول الأم، و”عيد”، كما يقول الابن. إنه حياة ممتدة، ورمز يتوارثه الأبناء والأرض والأشجار.
البعد الوجداني والفلسفي
النص لا يكتفي بالتصوير، بل يطرح سؤالاً وجوديًا:
هل الموت نهاية أم بداية أخرى؟
هل الغياب فراغ أم امتلاء بالمعنى؟
الشهيد في النص يختبر موته على مراحل، كأنه يفاوضه، كأنه يتدرّب على الدخول في الأبدية. حين يسقط، لا يسقط وحيدًا؛ تسنده الأرض، تعتذر منه الأعشاب، وتشهد عليه شجرة واحدة. هنا يتحول الموت إلى ولادة كونية، والشهيد إلى ضوء يمشي في حضن بعيد.
قيمة النص الفنية
1. البنية الزمنية الثلاثية أعطت النص عمقًا سرديًا.
2. الصور الشعرية المدهشة جعلته نصًا بصريًا نابضًا بالمشاهد.
3. الانتقال من الفردي إلى الجمعي صاغ الشهيد كرمز لا يموت.
4. اللغة المشحونة بالوجدان جمعت بين الرقة الفلسفية والصلابة السياسية.
خاتمة
حكاية ضوء في حضن بعيد للمبدعة ريما حمزة ليست مجرد نص عن الشهيد، بل هي مرثية كونية تضيء معنى الفقد الفلسطيني وتحوّله إلى طقس من طقوس الخلود. النص يكتب الجرح، لكنه أيضًا يكتب الراية. يتألم، لكنه أيضًا يعلن أن الشهيد باقٍ، حاضر في تفاصيل الأم وذاكرة الابن واعتذار الأرض.
إنه نص يذكّرنا أن الموت قد يكون جسديًا، لكن الحكاية، إذا كُتبت بهذا الصدق وهذا العمق، لا تموت أبدًا